محمد المختار ولد محمد فال
يبدو أن العواصف والزلازل، التي بدأت تعصف بالمنطقة العربية- منذ أن أحرق البوعزيزي نفسه- وظلت تحكمها آلية الفعل والفعل المضاد، قد ولدت مآسي وحروبا أحرقت الأخضر واليابس في بعض البلدان العربية.. ونسفت ما تبقى من مظاهر الدولة في مناطق أخرى، وهيأت بلدانا أخرى للتصنيف ضمن الدول الفاشلة.
آخر فصول هذه الموجة، هو: وضع قطر في مسلخة الانتقام، لتذبح بدم بارد، استصغارا لها وانتقاما من دورها المنحاز لتطلعات شعوب المنطقة، ولاهتمامها بواقع ومآسي الفلسطينيين في غزة، والتي يتحمل الحكام العرب النسبة الكبيرة منها.
كل ما فعلته قطر، هو أنها آمنت أن للمال دورا غير القمار والتفنن في الملذات، وبرهنت على أنه يمكن للدول الصغيرة بعدد سكانها وصغر مساحتها، أن تصبح كبيرة وقادرة على أن تقارع الكبار، عند ما تتقن فن اللعبة وترشد الموارد.
حركت قطر المياه الراكدة والآسنة، التي ظل الإنسان العربي غارقا في أوحالها وفي متاهات التخلف والتبعية والإذلال والفقر المصاحبة لها.. عيب قطر أنها أنارت الطريق وقدمت نموذجا، يفضح عبادة الحاكم ويعري الواقع العربي المهترئ.. فكان لا بد من أن تذبح من طرف سدنة الثورة المضادة، الذين تفنن بعضهم في الإبادة الجماعية لبني جلدته في العشر الأواخر من رمضان وهم صائمون ركع.. معززا بدعم سياسي ومالي من البقية، في حين كرست البقية أبواقها ومواردها، لتنفث سموم التيئيس، ولتزج بالأمة في الدروب الهامشية ويتم إشغالها بالصراعات البينية، بغية تغيير البوصلة وشغل الناس بما لا يخدم حاضرهم ومستقبلهم.
قطر تذبح اليوم، لأنها هي الدولة العربية الوحيدة التي بقيت ملجأ للكفاءات المشردة، الهاربة من بطش حكامها.. وهي وحدها التي لا زالت ترهق نفسها بمآسي وهموم الفلسطينيين في غزة.. تشعل الكهرباء، التي أطفأتها الثورة المضادة وتنقل للناس أوجاع ساكنتها، التي فاقمها السيسي وحلفاؤه في المنطقة وخارجها.. ولأنها أيضا لا تحمل سكينا صنعت في إسرائيل وسوقت في واشنطن أعدت خصيصا لتذبح أطفال غزة ونساءها جوعا وعطشا ومرضا.
يريدون ذبح قطر لأنها كشفت زيف نعتهم لجهاد الفلسطينيين بالإرهاب، وكانت أول من أدخل كاميرات صحافتها إلى خنادق المجاهدين، لتؤكد للعرب أنه لا زال هناك أمل في أن يصبحوا أمة لها كرامة، تقارع أعداءها، مهما كانت درجة الخذلان.. فلم تشارك في حرب "خيار المحافظة على البوصلة ثابتة باتجاه بيت المقدس وأكنافه"، ولم تساهم في مؤامرة القضاء على البندقية الموجهة إلى صدور الصهاينة دون غيرهم.
إن طرد الاحتلال الصهيوني هو خيار العرب والمسلمين الأول.. حوله تتفجر مشاعر المرارة في نفوسهم ولا وعيهم.. وحول فلسطين يتداخل لديهم الإحساس بالتحدي مع الشعور بالظلم وعدم تصديق ما يحاك ضد أمة تمتلك كل عناصر القوة، وفي نفس الوقت يسومها كل مفلس.
أمة حولها "القادة" العرب، إلى غثاء، لا يرى فيهم اترامب سوى حفنة دولارات، يجب انتزاعها منهم، فكان له ما أراد.. يتوددون في سرهم وعلانيتهم، للصهاينة ويمولون رسميا حروبهم القذرة ضد سجن كبير اسمه غزة، تزلفا وجبنا، بغية تمكينهم من قضم بيت المقدس وأكناف بيت المقدس!
إنه واقعنا المر الذي أصبح جزءا مألوفا من مآسي أمتنا العديدة، التي دفعت بالشعب العربي إلى أن ينتفض ضدها، فتساقطت رؤوس، كانت تستخف بشعوبها وتراها جزءا من سقط المتاع، فأغرقت المنطقة بالدماء، بفعل الثورة المضادة، التي تحولت خلال نسختها الحالية- والتي تعتبر هي الحلقة ما قبل الأخيرة- إلى شعار: " إسرائيل صديقتنا وحليفتنا، أما حماس وغزة، فهما عدوتانا".
لقد استخف قادة الثورة المضادة بعقول العرب والمسلمين والعالم، عند ما جرموا الجهاد والمجاهدين ونبذوا علنا المقاومة والمقاومين.. ونعتوا الصهاينة واترامب بالصديقين الذين يحلو معهما الرقص والبزنس.
لقد اختفى شعار: "نفط العرب للعرب" من قاموسهم،ليتحول ريعه إلى إكراميات لاترامب ومنقذ لاقتصاديات الدوائر الامبريالية من أزماتها المدمرة.. فلا هي سخرت لسد جوع شقيق ولا هي أخافت عدوا.. يكرمون "يلسن أمريكا" بمئات المليارات من الدولارات، ويحرمون غزة من جرعة دواء أو قطرة ماء، فتترك وحيدة في ظلمة سجنها الجماعي الذي فرضه السيسي وحلفاؤه عليها.
يستمتعون بعملية قتل بطيء، ضحاياها، هم أطفال ونساء من بني جلدتهم، لتصبح غزة- بفعلهم- عنوانا لسادية القرن 21.. حولوا آلاماها إلى مصيدة لكشف ذوي الضمائر الحية، بغية تحويلهم إلى ضحايا، يشغلون في همومهم الذاتية، عن مد اليد لها، وجرموا كذلك التعاطف الكلامي مع مجاهديها.
أغراهم طمع "مخبول واشنطن"، وظنوا أنهم مانعتهم دراهمهم من الفشل في ثورتهم المضادة، فعربدوا وجيشوا كل متسول، يرغب في العطاء، وكل صعلوك يبحث عن صيد يقتنصه، حتى ولو كان في المياه العكرة.
كلهم يتحدثون عن غزة ويكيلون لها الشتائم ويجاهرون بعدائهم لحماس.. يواصلون ليلهم بنهارهم، بغية نزع الشوكة الأولى الباقية في حلق الصهاينة، ونفخ الروح في دحلان وعباس، لاستعادة خوار عجل السامري.. سلاحهم تحويل الحق إلى باطل والممنوع واجبا واللص أمينا والأمين خائنا، ضمن "خلطة"، تجرم الجهاد وتكرس التبعية والهوان.. لذا استهدفت قطر وجيش ضدها كل متسول، من أجل ذبحها بسكين عربية هذه المرة، وبجوقة لا طعم لها ولا رائحة، ليتفرق دمها بين "قبائل العرب"، وتصبح بلا بواكي، فيقبر جهدها وتقبر معه أحلام وآمال العرب من المحيط إلى الخليج- ولو إلى حين.
من هنا يمكن أن نفهم الخطوة الموريتانية، المتسمة بالخفة والمناقضة لخيار شعبها.. فلا هي تمهلت مثل السنغال ولا هي كانت حكيمة مثل المغرب- رغم مصالحه الجمة وتحالفاته الراسخة، ولا هي مانعت كتونس من الانصياع للإغرءات.. فوضعت بلادنا ضمن طابور، لا يقف معنا فيه إلا حفتر في ليبيا وهادي في الرياض وجزر المالديف، التي يبحث سكانها عن من يأويهم، بعد حتمية غرق بلادهم الوشيك.
النظام بخطوته هذه، لم يهتم بسمعة البلاد ولم ينحز إلى رغبة شعبه ومصالح جاليته في قطر، ولم يلتفت أيضا إلى واقع فقراء بلده، الذين سيحرمون من كسرة خبزهم وقاعة درسهم ودفء مسكنهم.. نظام حرق كل مراكبه ولم يترك خطا للرجعة، عند ما ينقشع غبار الأزمة ويتصالح الأطراف.
إنه القصور السياسي والعداء المتأصل لكل ما هو نبيل في هذا البلد.
+++++++++
لك الله يا غزة، فقد تعودت الذبح ألف مرة كل يوم بسكين الدولة العميقة في بلدان الثورة المضادة.. كم كنت قاهرة للأعداء وللمتآمرين- رغم صغر مساحتك وقلة ذات يدك، التي أفرزها الحصار الآثم.. فكبرت بسببك بلدان صغيرة المساحة والعدد وصغرت- بفعل اللؤم معك- بلدان، رغم كثافتها السكانية ومساحاتها الهائلة.. فأنت البوصلة وغيرك تيه، وأنت المستقبل وغيرك هراء.. سيلعنون سامرييهم، وتظفري أنت بوعد الله.. فلن يضرك من خذلك ولن تتأثري إلا من لأوى، هي مقدمة للنصر الموعود.
لقد ضيعت الدولة العميقة في بلدان التبعية البوصلة، وعملت على أن يصبح العاشر من رمضان عنوانا للهزائم لا النصر، وأن يظل الخامس من حزيران محطة أبدية لهزائم العرب.. لكنك رغم ذلك، ستظفرين أنت بالنصر المبين بحول الله.. فما نقموا منك إلا لأن قادتك جمعوا بين إمامة الناس في المساجد، وقيادة المعارك في ساحات القتال..
إنها ضمانة النصر وغيرها خذلان وتكريس للتبعية والهوان.
فصبرا.. النصر صبر ساعة.. وهذه لحظة ما قبل الانتصار..