أثناء تنقلى بين المستشفيات الباريسية لغرض التكوين و التدرب قابلت بمحض الصدفة طبيبا فرنسيا له قصة إعجاب بالموريتانين يحكيها لمن سأله و لمن لم يسأله . الدكتور روكى (Dr Rouquet ) أخصائي فى الأشعة و زوجته طبيبة قلب و شرايين و قد إبتعثا معا من طرف التعاون الفرنسى إلى مدينة سينلوى ( أندر) بالسنغال و مكثا فيها عقدا من الزمن . و كان يصطاف هو و أسرته كل سنة على الضفة الموريتانية من النهر فى ربوع كرمسين الخضراء الوارفة . صادف مرة أن حطت الرحال بالقرب منهم أسرة كبيرة تتألف من عدة خيام و أعرشة و كانت تتوسط هذا الحي المتنقل خيمة هي الأكبر و الأفخم يسكنها شيخ متقدم فى السن يبدو أنه صاحب جاه و شأن ، و معه ولد له ، أربعيني أو يزيد ، يتكلم الفرنسية بطلاقة و تبدو عليه سحنة الرخاء و النعمة أكثر من الآخرين لكنه يعيش مثلهم تماما : يلبس نفس الدراعة و معمم بلثام أسود يجلس القرفصاء بينهم و يرتشف الحليب من قدح خشبى و يتناول الطعام بيديه دون فرشاة و لا ملعقة . كان أطفال الحي يترددون على خيمة الطبيب و زوجته فينقلون الأخبار فى الإتجاهين . ذات صباح شاهد الدكتور روكى الأطفال يركضون فى إتجاهه و وراءهم الرجل إبن شيخ الحي ليخبروه أن الرجل المسن كان مريضا لكن حالته تدهورت أثناء الليل و يطلبون منه المساعدة ، فهرع هو و زوجته معهم بما بحوزتهم من آلات و أدوية ، و بعد المعاينات الأولية تبين أن حالته تستدعى نقله إلى مستشفى فعرضا عليهم التوجه به إما إلى نواكشوط أو إلى دكار فقال لهما الرجل هلا كان نقله إلى باريس أحسن ؟ فبدأ الدكتور يتلعثم فى الإجابة و هو يقول بالطبع إن باريس أحسن و فى نفس الوقت يقول في نفسه كيف لى أن أعرض على أناس هم فى هذا الحال من شظف العيش و خشونته العلاج فى باريس ؟ فقاطعه الرجل بالقول : لأننا نملك شقة فى حي تروكاديرو !!!! فأصيب الطبيب بالذهول و هو يفكر فى صمت : كيف لقوم يملكون شقة فى أحد أرقى أحياء باريس أن يختاروا مع ذالك العيش فى هذه الظروف الشحيحة القاسية ؟ و كان ذهوله أكبر عندما عرف أن هذا الرجل متخرج من أعرق مدارس التسيير و التجارة فى فرنسا و قد تقلب فى أسمى الوظائف و آخرها مدير لأحد البنوك فى العاصمة !!! بدأت أشرح لزميلى أن البداوة و التبدى لا تعنى دائما العوز و المشقة و البؤس بل هي نمط حياة و ثقافة مغروسة فى جيناتنا و هي عصية على التحليل و المنطق لمن لا يعرف الصحراء و البادية !!! فبقدر ما ينتشى و يستلذ أحدهم بالتشمس و الإسترخاء على شواطئ سان تروبي أو ماربيا تجد الشخص منا مهما جال عبر أصقاع العلم و أنغمس فى رغد الحياة و رفاهيتها و أنبهر بوهج المدنِيِّة و بريقها تجده مشدودا لا إراديا كالمغناطيس إلى النوم تحت خيمة بين كثبانين فى صحراء عجفاء مفترشا حصيرا حرشاء و ملتفا بأطراف "دراعته" الفضفاضة يأكل اللحم المجفف و المشوي فى التراب و يكرع فى قدح الحليب و يمسح الرغوة عن أنفه بيده !!! تذكرت هذه القصة عند وفاة الرئيس أعل ولد محمد فال رحمة الله عليه . هذا رجل تقلد الوظائف السامية حتى وصل إلى أرفعها و جاب العالم طولا و عرضا و سافر فى الطائرات الخاصة و فى الدرجات الأولى و نزل فى أفخم الفنادق ، يموت ( رحمه الله ) على فم بئر يسقى إبله تحت شمس تيرس الحارقة !!! العبرة فى هذه القصة أننا لا يمكن أن نبهر أو نعجب العالم بسياراتنا رباعية الدفع المكيفة و لا بقصورنا الفخمة فى تفرغ زينه .... لأننا لا يمكن أن نضيف فيها جديدا ، إنما يمكن أن نقدمه للعالم و لا يجده عند غيرنا هي خصوصيتنا من دين و ثقافة و لغة ... فعلينا أن نعض عليها بالنواجذ دون أن نهمل ما تمليه ضروريات الحياة من المدنية و العلم و الحضارة و ما يتطلبه العيش المشترك مع الآخرين من إحترام و تقدير
. طاب يومكم و صوما مقبولا