محمد عبد الحكم دياب
بداية ليسمح لي القارئ الكريم أن أعتذر عن خطأ وقع في مقال السبت الماضي، وجاء في الفقرة السابعة، وتعلق بمكان اجتماع «زبينغيو بريجينيسكي»، مستشار الأمن القومي الأمريكي في فترة حكم الرئيس الأسبق جيمي كارتر مع الأمير فهد ولي العهد السعودي والأمير سلطان وزير الدفاع آنذاك، ولم يعقد الاجتماع في «غزة»، والصحيح أنه عُقِد في «جدة» لذا وجب التنويه والاعتذار.
وإلى المذبحة التي نفذها تنظيم «الدولة» ضد مواطنين مصريين مسيحيين؛ كانوا في طريقهم إلى أحد الأديرة في صحراء محافظة المنيا شمال الصعيد، وأبسط وصف لهذه المذبحة أنها مروعة. وقد روى شهود عيان أن عشرة مسلحين ملثمين؛ يستقلون 3 سيارات دفع رباعي وترافقهم شاحنة صغيرة؛ أطلقوا وابلا من النيران على حافلتين تقلان مواطنين مسيحيين؛ لم ينج منهم غير ثلاثة أطفال، ووصف مسؤول مركز الإعلام الأمني بالمنيا إطلاق النيران بأنه كان عشوائيا، ومصوبا نحو الحافلتين القادمتين من الطريق الصحراوي الغربي.. وتم إطلاق النيران مع دخول الحافلتين طريق فرعي «مدق» في اتجاه الدير الواقع غرب مركز العدوة.. وراح ضحيته 29 شهيداً وعدد آخر من المصابين.
مع كل جريمة من جرائم الفتنة، وبعد كل حادث يستهدف قتل أبرياء يتكرر المشهد، وتُستَخدم نفس المفردات، فلا الفتنة نامت ولا القتل توقف. ومع العلم أن مذبحة صحراء المنيا جاءت بعد ستة أسابيع من تفجيرات سابقة ضد كنيستين؛ إحداهما في طنطا والثانية في الإسكندرية، وأوقعتا 45 قتيلاً وأعلن تنظيم «الدولة» مسؤوليته عنهما، ولا نملك أمام ذلك المصاب إلا الدعاء للضحايا بالرحمة والمغفرة وللمصابين بالشفاء العاجل ولذويهم بالصبر والسلوان.
ويحق لنا أن نسأل كيف تمتد أذرع هذا التنظيم المسلح حتى الأسنان إلى رُقَع وأحوزة في طول العالم وعرضه، وقد يكون من المفيد عرض معلومات جاءت على موقع «هيئة البث البريطانية -بي بي سي» الناطق باللغة العربية في الجمعة 26 أيار/مايو الماضي؛ وجاءت ضمن تقرير عنوانه: «وجهة نظر؛ تدويل تنظيم الدولة الإسلامية»، وفيه تفسير لسر تكثيف تنظيم «الدولة» لعملياته في بلدان بعيدة عن العراق وسوريا، وكان قد اتخذ منهما مقرا رسميا، وهذا التنظيم تأسس بمسمى «دولة الخلافة» في حزيران/يونيو 2014، وشهد توسعا في عدة مناطق من العالم بعد مبايعة جماعات مسلحة محلية لزعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي.
وذكر الموقع أن عدد «الولايات» التابعة للتنظيم وصلت إلى 35 ولاية، يدير كل منها مسؤول حاصل على موافقة «القيادة المركزية». وأغلب هذه الولايات موجود في العراق وسوريا، وبلغت 19 ولاية، أما الولايات الست عشرة الباقية تقع خارج العراق وسوريا؛ في السعودية وليبيا واليمن، وتدعي «القيادة المركزية» بتبعية ما تسميه «ولاية سيناء» في مصر لها؛ مع ولاية الجزائر في المغرب العربي، وولاية القوقاز على التخوم الواصلة بين أوروبا وآسيا، وهي متعددة الأعراق والثقافات واللغات. وقيام ولاية خراسان (أفغانستان حاليا) من بداية عام 2015، ويعمل «تنظيم الدولة» على التوسع في المناطق المجاورة؛ باكستان وإيران وآسيا الوسطى، ويركز على الانتشار خارج «القارة العربية».
وهذه الولايات مختلفة الأشكال والأحجام، وتحرص دوما على السيطرة على الأراضي والتصرف فيها كدولة. وتطلب من رعاياها أن يثبتوا قدرتهم على إقامة نظام حكم وجهاز إداري على غرار ذلك القائم في المناطق الخاضعة في العراق وسوريا. وعلى الرغم من ذلك هناك جماعات تدين بالولاء للبغدادي؛ في تونس وإندونيسيا والصومال وبنغلاديش، ولم تصل لمستوى الولاية بعد، وهي على تواصل مع «قيادة التنظيم»، التي تبنت عمليات نفذتها هذه الجماعات وهي ليست تابعة لها رسميا!!..
ودعا «التنظيم» أتباعه إلى الهجرة إلى «الولايات» التي أقامها، وتجنب العيش بين «الكفار». وخلال ثلاث سنوات تدفق السلاح وآلاف المسلحين «المهاجرين» من أنحاء العالم إلى سوريا والعراق، وعاشوا في ظل «دولتهم»، وخدمتها. ومع تضييق الحصار على «القيادة المركزية»، وما تعرض له «التنظيم» من ضغوط، وما واجه من نكسات في عام 2016، تسرب إليه الإحباط، وضعفت سيطرته على معاقله العراقية والسورية، وتكبد خسارة آلاف المسلحين في معاركه الطاحنة هناك. بجانب أثر صرامة الإجراءات الأمنية وشدة الرقابة على الحدود؛ كل هذا جعل العبور إلى سوريا والعراق عملية بالغة الصعوبة، فقل تدفق السلاح والمسلحين إلى العراق وسوريا، أخذوا في مغادرة العراق وسوريا إلى بلدان أخرى بحثا عن ملاذ آمن، وما زالوا يراهنون على العودة ليشكلوا خطرا جديدا، ومن أجل ذلك يعيدون تقوية أنفسهم بعيدا عن الأنظار استعدادا لهذه العودة.
بهذه الخلفية تم التعرف على بعض جوانب القوة والضعف لذلك التنظيم «مجهول النسب والأصل والهوية»، ويعوض خسائره مما وقع تحت يديه من ثروات وإمكانيات هائلة، وقد يكثف عملياته في مصر، ويوسع من نطاقها لإشغال القوات المصرية وتشتيت جهدها.
وبدأت تظهر في الأفق مقدمات «فتنة» من نوع آخر؛ يمكن كشفها من متابعة ما يُكتب عما يُسمى «المسألة القبطية»، ومصر ليس فيها مسألة أو قضية قبطية إنما فيها أزمة مواطنة تحولت لأزمة مركزية مُسببة لخلل شديد تعاني منه السياسة الرسمية حاليا، وهو خلل يعود في جانب منه إلى جهالة معرفية وتاريخية بالأساطير التي أحاطت بتاريخ مصر القديم؛ وأدت إلى رفض جماعات مالية وإعلامية ورياضية لاسم مصر، فمنهم من استبدله بـ«الفراعنة» وآخرون يُحِلون «القبطية» محل المصرية، وأشرت إلى هذا الموضوع أكثر من مرة، وقد أخذ حيزا من كتابي الذي صدر مؤخرا، في محاولة لكشف مخاطر السقوط في فخ تشويه الشخصية وإلغاء الهوية وصولا إلى الضياع.
ولما كان الاحتلال البريطاني وقبله الفرنسي قد اعتمدا سياسة «فرق تسد»، فعَمِلا على نشر الأساطير، وانقسم المصريون بين اسطورتين؛ قبطية وفرعونية، وأصبح المواطن المسيحي المصري يوصف بـ«القبطي» وكأنه ليس مصريا، وإشاعة تصور أنه الحلقة الأضعف، ونفس الشيء حدث مع «الفرعونية» وكأن السياسة ونظم الحكم المتغيرة هي التي تصنع الشخصية الوطنية، وهذه جهالة معرفية وتاريخية متفشية لا تجد علاجا، وإذا ما عولجت تستقيم الأمور ويتساوى الجميع لا فرق بين مواطن وآخر مهما كان معتقده أو قناعته، وبإهمال العلاج وعدم إعلاء قيمة المُواطَنة، تستفحل الجهالة وتتعقد الحياة، وقد تصل إلى النفج في كير «المسألة القبطية»، واستخدامها ذريعة للتدخل الأجنبي والقبول بالتقسيم، وينتهي ـ لا قدر الله ـ النموذج التاريخي الراسخ الذي جعل المواطنين جميعا شعبا واحدا موحدا من آلاف السنين!!
٭ كاتب من مصر