وسام سعادة
ثمّة مسألة قبطية يتعذر اختزالها اليوم في أي مسألة أخرى، مصرية أو عربية، بقدر ما يتعذّر فصلها عن السياق الإنحداريّ المصري والعربي. فالعنف الذي يستهدف الأقباط اليوم، من هجمة دموية إلى أخرى، يستهدفهم لأنهم أقباط. لكنه إذ يستهدفهم من حيث هم كذلك، فإنّ دافعه إلى ذلك غير ناشىء عن منازعة دينية كلامية معهم، أو عن أحقاد متراكمة قرّر أن يفجّرها الآن ضدّهم.
فتنظيم «الدولة» يرى في الأقباط بحد ذاتهم ضحايا مثاليين لتمكينه من الإستثمار أكثر في الواقع المصري. وهنا أساساً يكمن الفارق بين نظرة «داعش» لهذا الواقع ونظرة سيد قطب إليه من قبل. نظر قطب، من سجنه، لدولة الإستبداد القائمة في زمنه والتي ستودي به إلى حبل المشنقة، فأعتبرها دولة «فرعونية» قائمة على تعبيد الناس لنفر منهم، هو فرعون، بدل تعبيدهم لرّب الناس، ولاحقاً ستشيع هذه الإدانة للإستبداد الحاكم على أنّه على نمط «فرعوني»، بعيداً عن حلقة المتأثرين مباشرة بأفكار سيد قطب. وظّفت ثورة 2011، على اختلاف تياراتها، هذا التنديد بالفرعونية ضدّ رئاسة حسني مبارك بشكل واسع، ومثمر. تحكمت ثنائية «موسى في مواجهة فرعون» بعد ذلك بمسار العلاقة بين قوى الثورة المختلفة، مع المجلس العسكري، وقامت لاحقاً كل الدعاية ضدّ الرئيس محمد مرسي على أنّه «فرعون على هيئة موسى»، وصولاً الى مزدوجة الإنتفاضة الشعبية والإنقلاب العسكريّ. آخر لحظة تجلت فيها ثنائية «موسى وفرعون» هذه في مصر، كانت قبيل الفض الدموي لإعتصام رابعة، وبالذات في كلمات المرشد محمد بديع أمام الجماهير المحتشدة في الميدان.
«داعش» المصرية هي نقض لكل هذا المسار، لكل المسار الذي يبدأ مع سيّد قطب وينتهي في رابعة، المسار الذي يقاتل الدولة كـ»فرعونية»، ويبحث عن إحياء تحرّري موسوي في مواجهتها. بالنسبة إلى «داعش» هذا التجسيد الإستعاري «قرآنوي» أكثر منه «إسلامويّ»، ويشبه طريقة التيارات العلمانية في توظيف رموز وصور تعجبها في التراث الديني، في ثنائيات ملحمية، لا يلبث أن تتكشف محدودية تأثيرها، واستنادها على قدر كبير من التجريد.
كثيراً ما تستأثر التحفظات والمساجلات مع سيّد قطب، ممّن أخذ عليه الغلو والتطرّف، بالإهتمام. لكن ثمّة أيضاً تراثاً من التحفّظ على سيّد قطب، وتحديداً على تفسيره، «تحت ظلال القرآن»، من على يمينه. تحفّظ يقول بأنّ قطب عمد إلى تفسير القرآن بالقرآن، بدلاً من تفسير القرآن بالحديث والسنّة بالدرجة الأولى. تحفظ يمكنه أن يمتد للفكر السياسي الذي طوّره قطب، في موازاة تفسيره، والقائم على ثنائية «موسى وفرعون». الدولة الإستبدادية الفرعونية، والبراء الموسوي منها. «داعش» هي حصيلة تجذير هذا التحفظ. هي حركة «لا قطبية» بإمتياز، تتعامل مع قطب كمفكر «أناركي». ليس هناك دولة «فرعونية» وأخرى «فرعونية». كل دولة هي فرعونية في مكان ما. السؤال الداعشي يناقض رؤى قطب: الدولة هي حكماً فرعونية، إنّما السؤال فرعونية في خدمة من؟
فكّر قطب بالهجرة من الدولة الفرعونية، أكثر مما فكر ببناء الدولة المهاجرة «التي على منهاج النبوّة». «ورّط» تلامذته من بعده بمجادلات لا تنتهي، لمعرفة إذا كان جهاز الدولة هو وحده «الفرعوني»، والمجاهدة محصورة ضده أو أنّ المجتمع كلّه فرعونيّ، وحكم الردّة يشمله كلّه. «ورّطهم» بثنائية موسى وفرعون، التي ظهر لاحقاً أنّها ارتدّت سلباً على كل مسارات إعادة أسلمة المجتمع والدولة في مصر: فما أن يمسك الإسلاميّون بزمام الأمور حتى تنفجر هذه النغمة «اللافرعونية» في وجههم، لكنها لا تنفعهم كتعويذة عندما يتأهّب العسكر لقمعهم بالحديد والنار. هي نغمة نشأت في السجون، وهي محبّة للسجون. «داعش» تحبّ السفر. الكر والفرّ. حروب الصحراء. التنقل بين الصحاري. الإحتماء بالبداوة ضدّ الحضر، مع إعتماد أساليب كولونيالية كلاسيكية في التعامل مع البدو أنفسهم في أماكن سيطرتها. لكن «داعش» تتعامل مع نفسها قبل كل شيء كـ»دولة». دولة في مواجهة دولة، دولة فرعونية «على منهاج النبوة» في مواجهة دولة فرعونية معادية لمنهاج النبوة. هنا بيت القصيد: لن تفهم داعش المصرية، ولا حربها على الأقباط، ولا الدعاية المبثوثة في سياق هذه الحرب، ولا كلامها القاسي المتواصل ضدّ جماعة الإخوان، من دون هذا التعارض الأساسي بين ما تقوله وما تفعله، من جهة، وبين الثنائية التي محور حولها سيد قطب فكره السياسي (موسى وفرعون).
ففي مقابل سيد قطب الذي جاء يعرّف الدولة في عهد جمال عبد الناصر، بأنّها فرعونية، ومرتدة، من حيث هي كذلك، عن الإسلام، تأتي داعش اليوم لتعيد تعريف هذه الدولة، لتقول بأنّها دولة «قبطية». دولة أقرب للأقباط ودينهم وجماعتهم، مما هي للإسلام والمسلمين. في حزيران 1941، اجتاح هتلر الإتحاد السوفياتي بدعوى أنّها دولة «يهودية بلشفية»، في وقت كان معظم القادة اليهود في الحزب الشيوعي السوفياتي قد أعدموا في موسكو. قد تبدو المقارنة هنا فضفاضة مع ما تنتهجه «داعش» في مصر، لكنها قد تساعد على الفهم. الدولة المصرية «قبطية» ما دامت لا تفرض الجزية وأحكام أهل الذمة على الأقباط، وما دام الأقباط متحمسين لها، ولحربها على الإسلاميين، نفس الإسلاميين الذين تشجب «داعش» تخاذلهم وتحاكمهم بغير ما أنزل الله، وانهزاميتهم الناشئة ليس فقط عن قولهم بالديمقراطية والتدرّجية، بل أيضاً لأنّ كل أفقهم مسجون بثنائية سيد قطب «موسى وفرعون».
بالنسبة إلى «داعش» المصرية، تعريف الدولة كفرعونية لا يخدم القضية الجهادية، بل يضيعها ويشتتها. محاربة هذه الدولة كقبطية يسمح، في المقابل، بضرب عصفورين، بحجر واحد: اعتبارها دولة في خدمة الأقلية الدينية في مواجهة الأكثرية الدينية، دولة ذات «جوهر قبطي»، ظلّ محتبساً من حاكم إلى حاكم، إلى أن أفشاه عبد الفتاح السيسي، واعتبار الأقباط هم الحلقة الأضعف فيها، وتركيز الضربات ضدّهم والسعي لتوطيد فكرة أنّ لا شيء يمكنه أن يوقف هذا المسلسل الجهنمي بعد الآن.
توظّف «داعش» مفارقة مصرية ليست بنت اليوم، لصالحها. فمصر هي أكثر المجتمعات العربية تأطراً في نموذج الدولة الأمة، ويمكنك أن تتحدّث عن أمة مصرية تشمل المسلمين والمسيحيين أكثر مما يمكنك أن تتحدّث عن أمة كهذه في أي من الكيانات الوطنية في بلاد الشام، أو بالنسبة لمجموع هذه الكيانات. في المقابل، مدى الإحالة إلى منظار «النجاسة»، بازاء الأقباط، حاضر أكثر بكثير من حضوره بازاء المسيحيين في بلاد الشام، وحاضر ليس فقط إسلامياً، بل مسيحياً أيضاً، من لدن المسيحيين المشرقيين من غير الأقباط، منذ عصور الفتوحات الإسلامية وإلى الزمن الحديث. في عصر الخلفاء المسلمين، كان التعامل مع المسيحيين المشرقيين الذين يتبعون كنيسة الإمبراطورية المعادية، بيزنطية، أفضل بكثير من التعامل مع الكنيسة القبطية، التي كانت ترشقها الكنائس الأخرى بتهمة «تسهيل» الغزو العربي. و»تاريخ البطاركة» الذي كتبه الإنبا ساويرس ابن المقفع القبطي في المقابل، لم يكن مقصراً هو الآخر في التكفير المضاد للكنائس المسيحية الأخرى، وإعتبارها متواطئة مع المسلمين على الأقباط.
وفي الزمن الحديث، لم يتخلخل منظار النجاسة هذا بشكل جذري. كثيراً ما يعتمدها المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في وصف وقائع استغلال من سماهم «أسافل القبط» لظروف الحملة الفرنسية، مع أن الجبرتي رسم صورتين مختلفتين، واحدة قاتمة، لـ»الخائن» يعقوب القبطي، دليل الجيش الفرنسي إلى صعيد مصر، وثانية إيجابية لجرجس الجوهري، جابي الضرائب، الذي عمل في الإدارات المتعاقبة، وحافظ على علاقة متوازنة مع المسلمين، أما رائد عصر النهضة العربية، رفاعة الطهطاوي، مثلاً في «تخليص الإبريز» يقول: «ومما يستحسن في طباع الافرنج دون من عداهم من النصارى حب النظافة الظاهرية، فان جميع ما ابتلى به الله قبط مصر من الوخم والوسخ اعطاه للافرنج من النظافة ولو على ظهر البحر.» ويتابع: «اعلم ان الباريسيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وخوض ذهنهم في الغويصات، وليس مثل النصارى القبطة في انهم يميلون بالطبيعة الى الجهل والغفل.»
داعش المصرية تنفذ الى الواقع المصري بمعية هذا التناقض، بين الدرجة العالية لتحقق الدولة الأمة في وادي النيل، وبين الدرجة العالية أيضاً لاستمرارية منظار النجاسة في النظرة إلى الجماعة القبطية. ما تقترحه، دموياً وجهنمياً، داعش في مصر، هو التالي: الدولة ليست فرعونية فقط، الدولة نجسة، وهي نجسة لأنها قبطية. ومنظار داعش هذا، مستقل إلى حد كبير عن واقع حال من يحكم مصر الآن، بخلاف المقالة المعادة المكررة حول أن «الاستبداد ينجب الإرهاب» (وهي صحيحة في المطلق، لكنها تتحول، اذا ما اكتفت بنفسها، الى نظرة بليدة وغير فعالة لا لفهم المتغير ولا لفهم اختلاف الذهنيات واختلاف الدوافع).
كاتب لبناني