د. عباس أبراهام
حفظك الله وأصلحك، اعلم أنه لا مطابقة بين الفكر والواقع. وما يقصُده الفلاسفة عادة بهذا يختلِف عنما أريدَه به هنا: وهو دون نقد الميتافيزيقا؛ بل هو في الحقيقية- إن تأمّلتَ- نقدٌ لغياب الميتافيزيقا. وهو- بالتعيين- أنه لا مُطابقة بين رمضان الفِكر ورمضان الواقع. فرمضان هو كلّ ما قامَ ضدّه رمضان. وإن كُنتِ قد تعرّفتِ على الجرس النيتشوي هنا فدعيني أزيدكِ: لقد مات رمضان. نحن قتلناه. من يُعزِّينا عن هذه الحقيقة؟
ولا شكّ أنّك قد تعرّفتَ علي: فأنا هو غرينتش. وما زلتُ، على أستِ الدّهر، أُنكِر وأستنكِر المناسبات والأهازيج وأتجافى عن التبريك والتهزيج. ثمّ إنّني أنفُثُ من الكدر على السعادة كما أنفثُ من التأمّل على الكدر.
على أنّني لستُ عبّاثاً. فالدِّين ليس خِطاباً، كما تُصوِّره الأصوليات؛ وإنما هو مسرَح. (وكما هو معروفٌ عن هكلبري فِنْ فإنه لم يكفِه العالَم مسرحاً لشقاوتِه). فالدِّين لا يتكلّم للعالَم؛ وإنما هو ما يتكلّم فيه العالَم. والدِّين هو مسرح للصراع ما بين الظالم والمظلوم. وعندما كنا أيفع كنا نُغيظُ الأصوليين بمقترَح اقتسام أركان الإسلام: أن يأخُذوا- باعتبارِهم أغنياء- الحَجّْ؛ ويُعطوننا- باعتِبارِنا فقراء- الصّوم.
إلاّ أن رمضان لم يعُد رمضان الفقراء. ففي هذه الأثناء ناخَ عليه رأس المال بِكَلْكَلِه. ورمضان الحالي هو عيد الشراء والوزن والنوم وطبعاً استغلال النساء. فالنيوليبرالية- وهي إذ تُخصخِصُ- إنما تقوم بنزع الأعباء من الدّولة (لأنها تشتري الدولة) وتُلقي بها على العمل الأهلي: على البيت والنساء والتعاضديات المجتمعية والقبيلة (فالقبيلة سابقة، ولكنّها لاحقة، على النيوليبرالية) والمِخيال والدِّين والخصوصية الثقافية.
ويُصبِح رمضان طقساً استهلاكياً؛ كلّ شيء يُجدّد ويُشيأ ويُسوّق. حتى العقول. مسلسلات جديدة. نمط تصرّف جديد. لغة جديدة. ويُحوّل اللاهوت إلى لغة السوق: تخفيضات إلهية. و"آلهة مكة تِجارة وعبادة". وكان الاقتصادي التركي مراد تيزاكجا قد ذهب- نقيضاً لڤيبر- إلى أن الإسلام هو دين السوق الحُرّْ وأن لُغته الطقوسية إنما اُنتِجت على تقعيد تِجاري. ولكن السؤال الآن هو: هل انهزَمَ هُبل حقاً؟
فبالأصل كان ثمّة تقليدان بخصوص هُبل: هو من ناحية إله القمر؛ ومن ناحية هو إله المعرفة والتنجيم. وهو يضرب بالأزلام للتخمين والتكهين والتصريح بالمستقبل. إلاّ أنه سرعان ما صارَ رباً تِجارياً. فإذا كانت المعرِفة مقدّسة فإن اعتناقَها سرعان ما صار موسماً تِجارياً بعكاظ. وهذه هي بالتمام والكمال قصة الأديان. وكان هُبل أصلاً إلهاً بشمال الجزيرة وبالعراق والشام يُعبدُ لدى العرب الحضريين. ولكن الاستقدام القرشي له (من خلال عمرو بن لُحَيْ) حوّله من إله للتخمين إلى إله للتجارة. آلهة مكّة تجارة وعبادة.
وحاصِل القولِ إن رمضان قد تُرجِم إلى عُطاظ. وعُكاظ قد حُدِّثُ ثمّ لُبرِل. وإذا كان رمضان الأصلي قد كان مزعماً فقيراً فإنه اليوم ممارسة استهلاكية.
لا تقل لي إن رمضان هو موسم إفطار الصائم والعطف على الجائع. هذه التحوّلات جلية لي. ولكنّها هي عينُ النقد. فرمضان الفِكر هو فرصة تحويل الثري إلى جائع؛ اما رمضان الإحساني-النيوليبرالي (ومن المهم أن نعرَف على الإحسان باعتِبارِه خاصية نيوليبرالية؛ فهو يقوم بتعهيد المسؤوليات الاجتماعية للمجتمع: أي الدولة: إلى المجتمع المدني)؛ فهو تحويل الثري ليس إلى جائع وإنما إلى مداعِب للجائع. فهو- وهو لم يعد قادِراً على التحوّل إلى جائع- قد وجد فرصة في شراء الجوع وتعهيده. وإذا كان الدِّين الليبرالي يقوم على موضعة الإيمان بحيثُ لا يُصبِحُ إيمان أحدٍ بذاته؛ وإنما هو إيمانٌ مقتصٌ من مجتمعيتِه، فإن الجوع النيوليبرالي ليس جوع الفرد؛ وإنما هو تعهيد الجوع وخصخصته.