صبحي حديدي
كانوا ستة مرشحين، رجالاً، حصرياً (إذْ لم يأذن «مجلس صيانة الدستور» بترشيح أية امرأة)، لانتخابات الرئاسة الإيرانية، التي تجري اليوم. انتهوا إلى ثلاثة أساسيين، بعد سلسلة انسحابات؛ ثمّ كرّت السبحة، بعدئذ، مع استسلام محمد باقر قاليباف: الطيّار، أصغر المرشحين سنّاً، القائد السابق في «الحرس الثوري»، منافس محمود أحمدي نجاد في دورة 2005، والمرشح الذي حلّ ثانياً في دورة 2013 أمام حسن روحاني. وهكذا، استقرت الجولة عند الصراع بين الأخير، الرئيس الحالي وممثل «الاعتدال» و»الإصلاح»؛ وإبراهيم رئيسي، ممثل «التشدد» و»التيار المحافظ».
والحال أنّ توصيفات المرشحَين لا توضع بين أهلّة اقتباس، إلا لأنّ معانيها تنطوي على الكثير من الإبهام والالتباس، ودلالاتها الفعلية لم تستقرّ مرّة واحدة منذ شيوعها للمرة الأولى؛ خلال عهد الرئيس الخامس محمد خاتمي، 1997. فإذا انطلق المرء من سجلّ الرئيس الحالي، فإنّ معظم الوعود التي قطعها على نفسه، أمام الشارع الشعبي، لم يتحقق منها إلا النزر اليسير؛ خاصة الاتفاق النووي مع الغرب، الذي تضمن رفع جزء من العقوبات عن إيران، وسمح بمعدّل نموّ بلغ 6,6 بالمئة، لكنه أبقى معدّل البطالة على حاله، بل تفاقم وتضخم في قطاعات عديدة. كذلك لم يفلح روحاني في تخفيف حدّة القيود الاجتماعية المفروضة على المرأة، وعجز عن ضخّ جرعة بسيطة ملموسة من الحريات السياسية والمدنية.
منافسه رئيسي لا يخفي تاريخه «الحافل»، سواء في سلك القضاء، حيث شارك في إصدار أحكام بالإعدام على المئات، والبعض يتحدث عن الآلاف، أواخر الثمانينيات؛ أو في انضوائه التامّ ضمن مؤسسات الولي الفقيه، و»الحرس الثوري»، حتى أنّ الشائعات ترى فيه خليفة محتملاً للمرشد الأعلى علي خامنئي. ومع ذلك فإنه، خلال خطبه أثناء الحملة الانتخابية ومناظراته مع روحاني، لم يقطع وعوداً «مضادة»، إذا جاز القول، بخصوص إمكانية التراجع عن الاتفاق النووي مثلاً، أو التضييق أكثر على الحريات، أو إلغاء بعض التدابير التي اتخذها روحاني وصُنّفت في خانة «الإصلاحات».
ذلك لأنّ انتخابات الرئاسة في إيران، وهذه التي تجري اليوم هي الثانية عشرة منذ الثورة الإسلامية والإطاحة بنظام الشاه، تبقى مسقوفة بمبدأ عقائدي وفقهي وتشريعي، ثمّ سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني وعسكري… هو ولاية الفقيه. وسنة بعد سنة، في كلّ استحقاق انتخابي تشريعي أو رئاسي، تبقى آفاق التغيير الداخلي في إيران معلقة، أو بالأحرى مغلقة، عند المراجعة الراديكالية الشاملة لهذا المبدأ بالذات، وتصحيح علاقته بالحياة والحقّ والمجتمع والعصر. وهذا، للتذكير، مبدأ في «الحكم الإسلامي» صاغه الإمام الخميني على عجل، حين كان منفياً في مدينة النجف العراقية عام 1971؛ وخضع على الدوام لأخذ وردّ، حين اختلف حول تأويلاته عدد كبير من فقهاء الشيعة. ونعرف أنّ خامنئي هو، اليوم كما في الأمس، أشدّ المدافعين عن المبدأ، وأبرز المتمسكين بالإبقاء عليه في صلب الدستور، بل وتشديد وتوسيع صلاحيات الوالي الفقيه المنصوص عنها حالياً في الدستور. وليست عسيرة معرفة أسباب هذا الحماس، بالطبع.
فما الذي يتبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية، محافظاً كان أم إصلاحياً، إذا كانت سلطة الوالي الفقيه تتضمن تسمية أعضاء مجلس المرشدين، وتسمية مجلس القضاء الأعلى، ورئاسة القيادة العليا للقوات المسلحة (بما في ذلك تعيين أو عزل رئيس الأركان، وقائد «الحرس الثوري»، وأعضاء مجلس الدفاع الأعلى، وقادة صنوف الأسلحة)، وإعلان الحرب والسلام والتعبئة، وإقرار أسماء المرشحين للانتخابات الرئاسية، وتوقيع مرسوم تسمية رئيس الجمهورية بعد الانتخابات، وإدانة الرئيس وعزله بموجب أسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية، وإصدار مختلف أنواع العفو؟ ثمّ ألم يحدث، مراراً، أنّ بعض الفقهاء ورجالات الحكم ذهبوا أبعد مما ينبغي في تفسير مبدأ ولاية الفقيه؛ كما حدث حين اعتبر أحمد أزاري ـ قمّي، أحد من كبار شارحي فكر الخميني، أنّ بين صلاحيات الوالي الفقيه إصدار «منع مؤقت» من أداء فرائض دينية مثل الحجّ، أو إصدار أمر بهدم بيت المسلم، أو توجيهه بتطليق زوجته؟
وهكذا، إذا صحّ أنّ المعارك السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تكتنف الرئاسيات الإيرانية، يمكن أن تدور بالفعل بين «المحافظين» و»الإصلاحيين»، حول التنمية والمعيشة والوظائف والخدمات والحريات؛ فإنّ المعركة الأكثر جوهرية، أي التخفيف من وطأة ولاية الفقيه، ليست في عداد الملفات المسكوت عنها، فحسب؛ بل يتنافس المرشحون في مقدار الحثّ على… تحريم النقاش حولها! ذلك، في عبارة أخرى، يعني أنّ المعركة لا تدور حول مسائل الانفتاح على الغرب، وصواب أو خطل سياسة «تصدير الثورة» ومواصلة الكفاح ضدّ الإمبريالية العالمية، والتورط في سوريا والعراق ولبنان واليمن والبحرين والكويت. إنها، في الجوهر، ما تزال تدور حول حاضر ومستقبل إيران، وحول مسائل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، أوّلاً وجوهرياً.
ومن جانب آخر، إذا كان خامنئي قد حرص على إدامة التوازن بين فريقَي المحافظين والإصلاحيين، واعتبرهما «جناحين لا بدّ منهما لكي يحلّق طائر الثورة الإسلامية»؛ فإنه انحاز منذ البدء إلى الفريق الأوّل، بل رجّح كفّة المجموعة الدينية ـ العسكرية المتشددة. وليست بعيدة في الزمن تلك البرهة التي شهدت اندلاع تظاهرات طلابية ضخمة في شوارع طهران، تطالب باستقالة خامنئي وخاتمي معاً؛ وأن تعلن مجموعة مؤلفة من 248 شخصية إصلاحية أنّ «وضع أشخاص في موضع السلطة المطلقة والألوهية هو هرطقة واضحة تجاه الله وتحدّ واضح لكرامة الإنسان»، في إشارة عدائية لمبدأ ولاية الفقيه، كانت النقد الأوضح والأكثر جرأة حتماً منذ انتصار الثورة الإسلامية. ومن الطريف أنّ أبرز انتقادات المرشح رئيسي، ضدّ منافسه المرشح روحاني، تبدأ من اتهام الأوّل للثاني بـ»التفريط» بالسيادة الإيرانية عبر توقيع اتفاق نووي مع الغرب لم يكن، في نظر رئيسي، سوى «شيك بلا رصيد». ومصدر الطرافة أنّ الأخير يعد مواطنيه الإيرانيين بمستندات مالية من طراز آخر، ضمانتها هذه المرّة لا تتوفر في المصارف والمؤسسات والاتفاقيات الدولية، لأنها إنما تُصرف في غياهب الغيب فقط، بضمانة من… المهدي الغائب! الأمر الذي يعيد الذاكرة إلى ذلك «النزاع العقائدي» بين الرئيس السابق أحمدي نجاد، ونفر من آيات الله وحجج الإسلام، حول زعم الأوّل بأنّ «يد الله سوف تظهر وترفع الظلم عن العالم»، وأنّ «أعداء إيران يعلمون أنّ عودة المهدي الغائب حتمية».
وهذا ـ أحمدي نجاد، هو نفسه الذي منعه «مجلس صيانة الدستور» من الترشيح لهذه الدورة، فهدد بكشف النقاب عن لجوء «الحرس الثوري» إلى تزوير الانتخابات الرئاسية لسنة 2009 ـ كان، ذات يوم غير بعيد، قد استُقبل في العاصمة اللبنانية بيروت على رؤوس الأشهاد، بطبول وزمور وطقوس تفخيم وتلميع وتعظيم، قلّ مثيلها؛ وتولى «حزب الله» تضخيم سجاياه القيادية، ورفع خصاله الشخصية إلى سوية رفيعة (السند العظيم للمقاومين والمجاهدين والمظلومين). الذروة جاءت من حسن نصر الله، الأمين العام لـ»حزب الله»، شخصياً: «نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه في كلّ الساحات، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا».
.. على صعيد الشيكات التي بلا رصيد، في الواقع؛ إذْ أنهم، هنا تحديداً، ما بدّلوا تبديلا!