في الوقت الذي قد يشعر فيه البعض بالملل لو حاول احتساب الساعات التي يقضيها في تصفح البريد الإلكتروني، فإن فابيين ماثي لم يشعر بالملل على الاطلاق عندما احتسبها، وتوصل إلى اكتشاف مدهش.
إذ اكتشف ماثي أنه قضى 600 ساعة على الأقل سنويا في مطالعة الرسائل على البريد الإلكتروني وكتابتها وتصنيفها أثناء العمل، وهذا يعادل قضاء ثماني ساعات يوميا في مطالعة البريد الإلكتروني بلا انقطاع طوال شهر يونيو.
كان الاكتشاف صادما لماثي،الاخصائي النفسي بجامعة صوفيا أنتيبوليس، بمدينة نيس في فرنسا، وقرر أن يفعل شيئا حيال ذلك. وبالفعل تخلص ماثي من هاتفه الذكي ورفض أن يدخل على حسابه على البريد الإلكتروني الخاص بالعمل خارج ساعات العمل الرسمية.
ويقول ماثي: "أنا لا أطالع رسائل البريد الإلكتروني في المساء ولا في عطلة نهاية الأسبوع، ولذا يعرف زملائي في العمل أنهم إما أن يرسلوا لي الرسائل بالبريد الإلكتروني عشية عطلة نهاية الأسبوع، أو ينتظروا حتى صبيحة يوم الأثنين أول أيام العمل في الأسبوع".
ومنذ بضع سنوات، قرر ماثي أن يضع حاجزا بين حياته العملية وحياته الشخصية، والآن اتيحت الفرصة للكثير من العاملين في فرنسا ليسيروا على خطاه.
وقد سنّت الحكومة الفرنسية قانونا جديدا دخل حيز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني من العام الحالي، يكفل للعاملين في الدولة الحق في الامتناع عن الرد على الرسائل الواردة من العمل خارج ساعات العمل الرسمية وسمي هذا القانون باسم "الحق في قطع الاتصال".
وهذه السياسة ستحدث تغييرا جذريا في ثقافة العمل المتواصل التي أصبحت سائدة في فرنسا بفضل الوسائل التكنولوجية الحديثة.
وبموجب هذا القانون، يتعين على جميع الشركات التي يزيد عدد موظفيها عن 50 موظفا، والتي تمثل قرابة نصف القوة العاملة في فرنسا، أن تتفاوض مع موظفيها بشأن حقهم في التوقف عن استخدام الوسائل الرقمية خارج ساعات العمل، للتأكد من أن العاملين سيحصلون على وقت كاف للاستمتاع بحياتهم الشخصية والأسرية.
وهذا يعني أن هذا القانون سيعيد التوازن بين الحياة العملية والحياة الأسرية، ولكن ليس من خلال إغلاق خوادم الشركة في الساعة السادسة مساء، ولا بوضع سياسات صارمة تمنع استخدام البريد الإلكتروني في عطلات نهاية الأسبوع، بل من خلال إرشادات تضعها الإدارات بما يتناسب مع كل شركة على حدة.
وفي حين يرى البعض أن هذا يعني حظر إرسال رسائل البريد الإلكتروني بعد ساعات معينة في المساء، فإن البعض الآخر يرى أن هذا يعني وجود بعض الموظفين تحت الطلب في أوقات مختلفة.
العمل من وقت لآخر
وأثار هذا القانون سؤالا مهما: هل من الممكن حقا التوقف عن استخدام البريد الإلكتروني، وهل سيزيد هذا من إنتاجيتنا؟
يقول ماثي، الذي يجري أبحاثا على الذاكرة البشرية ومدى قدرتنا على الانتقال من مهمة إلى أخرى: "كلنا يعرف أننا لكي نتقن عملنا يجب أن نرتب المهام الصعبة بحسب الأولوية، ولكن الناس يفضلون مطالعة البريد الإلكتروني على إمعان التفكير في المشاكل التي تواجههم. ولم تعد لدينا القدرة على التفكير ثلاث ساعات من أربع ساعات في مشروع واحد. لقد أصبح البريد الإلكتروني يشتت انتباهنا طوال الوقت".
ونبّه ماثي إلى أن مطالعة البريد الإلكتروني ستقلل من قدرتنا على الإنتاج، كما أن تجعل المستخدمين يتعلقون بها إلى حد الإدمان.
ويقول ماثي: "هذه الرسائل القصيرة ترد إليك باستمرار وتمنحك مكافآت بانتظام، وأرى أننا ندمن مطالعتها بسهولة".
ويضيف ماثي أن هذا الإدمان يسهل لنا إرجاء تنفيذ الاعمال الحقيقية ويقلل من انتاجيتنا في العمل.
ولا يخفي ماثي أن طبيعة عمله في مجال التعليم والبحث تجعله أكثر عرضة للإدمان على مطالعة البريد الإلكتروني. كما أن الشخص الذي يعمل في القطاع المالي، على سبيل المثال، قد يحتاج أن يتواصل مع الناس في الجهات الأخرى من العالم في مناطق زمنية مختلفة.
ولكن ماثي لديه نصيحة يرى أنها جديرة بأن تطبق على الجميع.
يقول ماثي: "إن مطالعة البريد الإلكتروني ليست مفيدة للعمل في أغلب الأوقات، لأنها تشتت انتباهنا عن العمل الحقيقي والمميز الذي نزاولة. وإذا لاحظت أنك أدمنت بالفعل مطالعة البريد الإلكتروني، فحري بك ألا تستهين بهذه المشكلة".
الاحتراق النفسي
يعد القانون الفرنسي خطوة في طريق إدراك المخاطر الصحية المحتملة التي تمثلها أنماط الحياة الحديثة التي تبقينا على اتصال دائم بالعمل.
ويشير عدد متزايد من الدراسات إلى أن ساعات العمل الطويلة تؤدي إلى أشد درجات الإجهاد الذي يسمى "الاحتراق النفسي"، وهو الإنهاك البدني والعاطفي والنفسي الناتج عن الإفراط في العمل، والذي أصبح أحد الأمراض المهنية الحديثة.
ووفقا لدراسة أجرتها مؤسسة "تكنولوجيا" المتخصصة في تقييم المخاطر المهنية، فإن 12 في المئة من العاملين بفرنسا، الذين يبلغ عددهم 3.2 مليون عامل، معرضون للإصابة بالإجهاد الشديد بسبب الإفراط في العمل. وخلصت الدراسة إلى أن تبعات إنهاك الموظفين في العمل لن تؤثر على الأفراد فحسب، بل لها مخاطر مالية على الدولة أيضا. وقدرت الدراسة الكلفة الاجتماعية للإجهاد في العمل بما يتراوح بين مليارين وثلاثة مليارات يورو سنويا في فرنسا.
وفي الولايات المتحدة، يزيد الإجهاد في العمل من تكاليف الرعاية الصحية بما يعادل 190 مليار دولار سنويا، وفقا لتقديرات باحثين من جامعتي هارفارد وستانفورد.
ويشير تحليل لمجلس الاتحادات التجارية بالمملكة المتحدة في بريطانيا إلى أن ساعات العمل الإضافية قد زادت بنسبة 15 في المئة، أي ما يزيد على 48 ساعة أسبوعيا، منذ عام 2010. وبحسب تقديرات الهيئة التنفيذية للصحة والسلامة في مكان العمل، تسبب الإجهاد والقلق والاكتئاب الناتج عن الإفراط في العمل في خسارة 11.7 مليون يوم في الفترة ما بين 2015 و2016. وتدل هذه الأرقام على أن عدد حالات الإجهاد الناتج عن العمل ظل على نفس المستوى على مدار أغلب العقد الماضي.
هل هذه هي الطريقة الصحيحة لحل المشكلة؟ وهل تكمن المشكلة في التطور التكنولوجي؟
يخشى منتقدو القانون الفرنسي ألا يكون استخدام الناس للأجهزة التكنولوجية هو المشكلة الحقيقة التي يجب أن تعالجها الحكومة.
يقول مارك راتن، أحد الشركاء في مقهى "ويركهاوس"، الذي يوفر مساحة للعمل ذات تصميم عصري في نيس: "أرى أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطيء كالمعتاد، نحن نريد أن نغير نمط العمل القديم الذي يفرض على الناس ساعات دوام محددة من الساعة التاسعة صباحا حتى الخامسة مساء، ونترك للناس حق اختيار ساعات العمل التي تناسبهم".
وانتقد الكثير من الفرنسيين القانون الجديد لأنه يضع أهدافا تفوق قدرات الحكومة، بينما أشار البعض إلى أن القانون الجديد غير مُلزم. وهذا صحيح، ولكن على الرغم من أن الشركات غير مطالبة بتوقيع اتفاق بموجب القانون، فإنها ستعد مسؤولة جنائيا إذا رفضت التفاوض مع الموظفين في هذا الشأن.
ويخشى بعض مؤيدي القانون أيضا، مثل غراس جين ماري، الذي يملك شركة في مدينة نيس، من أن يكون من الصعب وضع القانون موضع التنفيذ.
ويقول جين ماري: "يجب أن يفصل الناس بين الحياة العملية والحياة الشخصية، ولكن كيف تضمن أنك ستأمن العقاب إن لم ترد على رسائل البريد الإلكتروني في عطلة نهاية الأسبوع؟"
وخارج فرنسا، أثار القانون سخرية الكثيرين، الذين رأوا أن القانون يؤكد القوالب النمطية الراسخة في أذهان الناس عن القيم المعنوية للعمل والعمالة المرفهة في فرنسا.
إلا أن بعض الأدلة تشي بأن الحكومة ربما تكون على المسار الصحيح.
وتوصلت دراسة عام 2015 من جامعة بريتيش كولومبيا في مدينة فانكوفر الكندية، إلى أن مستويات الإجهاد كانت أقل لدى الأشخاص الذين يلتزمون بمطالعة البريد الإلكتروني ثلاث مرات يوميا فقط عنها لدى من يطالعون البريد الإلكتروني لعدد غير محدود من المرات.
ورغم أن هذا التصور قد يبدو غير واقعي، فإنه يلمح إلى أن استخدام البريد الإلكتروني هو أحد الأسباب في تردي الحالة الصحية والنفسية للعاملين.
وتشير دراسة أخرى من جامعة ولاية كولورادو الأمريكية إلى أن عدم القدرة على الاسترخاء بسبب ترقب رسائل البريد الإلكتروني خارج ساعات العمل من بين العوامل التي تزيد من الإجهاد.
التغيير من القمة
وهناك شركة في فرنسا ليس لديها أدنى شك في نجاح القانون الجديدة وتتزعم الجهود المبذولة من أجل تنفيذه.
وفي أعقاب انتحار 19 على الأقل من موظفي شركة "أورانج" العالمية للاتصالات (فرانس تليكوم سابقا) المملوكة لفرنسا في الفترة ما بين 2008 و2009، قررت الشركة أن تغير من هيمنة الوسائل التكنولوجية على حياة موظفيها.
ووضع المديرون التنفيذيون في شركة أورانج قواعدهم الخاصة لحث الموظفين على الامتناع عن إرسال أي رسائل ذات صلة بالعمل خارج ساعات العمل الرسمية، مع التعهد بأن يلتزم المديرون بعدم معاقبة أي موظف لا يكون على اتصال بالانترنت خارج مكان العمل.
وفوق ذلك درّبوا المديرين ليدركوا بأنفسهم حجم التوتر غير المبرر الذي يسببونه للموظفين بإرسال رسائل بالبريد الإلكتروني خارج ساعات العمل، إذ قد يشعر الموظفون بأنهم مجبرون على الرد على الفور.
ولم تكن شركة "أورانج" هي الوحيدة التي تشجع موظفيها على قطع الاتصال بالعمل، إذ اتخذت كل من شركة "فولكسفاغن"، إحدى كبريات شركات صناعة السيارات، ومؤسسة "أريفا" للطاقة، وشركة "أكسا" للتأمين، خطوات تكفل لموظفيها حق الامتناع عن الرد على الرسائل التي ترد من العمل خارج ساعات العمل الرسمية من قبل أن يصدر القانون الفرنسي.
ورغم ذلك، يتبنى راتن، من مقهى "ويركهاوس" رأيا مخالفا، إذ يرى أن هناك طرقا أخرى لزيادة الإنتاجية ويتوقع في المستقبل أن يزيد عدد الموظفين الذين يختارون العمل وفقا لساعات مرنة بما يتناسب مع احتياجاتهم.
ويقول راتن: "إن نظام العمل الحالي يهدر الكثير من الساعات بسبب الطريقة التي نُظم بها. إذ يملأ الموظفون أوقات فراغهم بالتحديق في موقع فيسبوك أو غيره من المواقع، في حين يمكنهم في المقابل أن يخرجوا مع أسرهم في المساء ويعملون لاحقا بحسب متطلبات العمل".
ويضيف راتن: "على الشركات أن تضع في اعتبارها مستقبلا إعطاء الموظفين الحق في أن يختاروا بأنفسهم الوقت الذي يناسبهم للعمل".