د . عباس إبراهام
محمد المختار الشنقيطي هو "راجل فضيل"، كما يقول البيضان. وكما قال ترتوليان عن سينيكا فإنه "واحِدٌ منّا" (Seneca saepe noster). ومن حقوقِه علينا أن ننظُرَ فيما يقوله. والشنقيطي- مثله مثلنا- يقولُ أشياء كثيرة. والواِقع أنّه لم يُمنَح أحياناً الحياةَ الطبيعية للكاتب فأُخرِجَ ما يَقوله من مجال النقد إلى مجال الاحتجاج والتنديد وسيقَ تيارُه بجريرته. فويلٌ له من الناس وويلُ الناسِ منه.
إلاّ أنّه يقول أحياناً كلاماً كبيراً. وقد زَعَمَ بعضُ أتباعِه مؤخّراً أنه من التناقِضُ أن تُؤخَذَ بعض أقولِه دون بعضٍ؛ وربما أن الأسلم هو أخذُه بقضِّه وبقضيضه؛ وأن على من قَبِل بمواقِفه من تعليق أحكام الرّجم أن يَقبَل بموقِفه من الجذل بموت الأعداء! برأيي أن هذا هو ابتزاز الموسم. فهو يزعم: أولاً: أن الناس متناسِقون فيما يقولونه. والواقِع أننا انتقائيون كلّنا، شئنا أم أبينا. وثانياً: أن ما يقولَه يصدُر عن نَسَق. وهذه أسطورة مفادُها أن الكبار متزمِّتون "أيديولوجيا" ومصروفون عن الهوى وأن ما يقولَونه يصدُرُ عن مرجعية واحِدة. وثالثاً: أن ما يقولونَه لا تاريخي: لا تعتوِرُه الظرفية والمُراجَعات. ورابعاً: أن الإتِّباع الأبدي والتقليد السرمدي أوْلى من النقدية ومن الأخذِ والردّ ومن الانتقائية. ليس كلّ هذا جِدياً.
الشنقيطي خرَجَ مؤخّراً بمقولة أنه يجب الاحتفاء بموتِ الظَّلمة. وواضِحٌ للموريتانيين أنه يقصُد الرئيس الراحِل للتو أعلي ولد محمد فال (1952-2017). والشنقيطي متناسِقٌ هنا على الأقل في آرائه الجذِلة بموت أعدائه: البوطي (2013) وهيكل (فبراير 2016) وزويل (أغسطس 2016). ولقد قدّمَ الشنقيطي وأتباعه هذه المواقِف الجذِلة على أنها إحياءٌ للسُنَن. أما مواقِف احترام الموت وإنهاء النقاش السياسي في المأتَم فقد قدّمها أتباعه على أنها هرطقة علمانية. هذا ليس صحِيحاً من عِدة أوجه: فلا شكّ ان في الإسلام تواريخ الجذل بموت الأعداء؛ ولكن لا يُنكِرُ إلاّ مُكابِر أن السكوت عن الأموات هو أيضاً تقليدٌ إسلامي. بل وأقول لعلّه الأذيَع. لقد وُصِفتُ مؤخّراً- وبرأيي فإن ذلك صحيحٌ بتأويلٍ معيّن- أنني من المُرجِئة. والواقِع أن الإرجاء هو تعليق الحُكم الأخروي على الناس وهو أيضاً السكوت عن السياسة الاولى وإيقاف أحكام الخير والشّرْ عن السياسة الإسلامية الأولى. وأوّل من وَرَثَ هذا هم السنة. ورغم ما في تاريخ الأفكار من تأثيم السنة للمرجئة وللجهمية فإنّهم هم ورثتُهم. وقتلُهم لهم هو قتلٌ أوديبي. فالسنة هم من يُعلِّقون التصنيف النقدي عن الخلفاء الراشِدين فيغدون أخياراً كلّهم رغم الحرب الأهلية (ومفهوم "الراشِدين" هو مفهومٌ إرجائي) والسنة يسكتون عن الفتنة الكُبرى ويُرحِّمون على الجميع ولا يَلعَنونَ منهم أحداً.
ثمّ إن الشنقيطي لم يكتُب يوماً في أعدائه هؤلاء غير الفَرَح بموتِهم. إننا لا نعلَمُ منه أنّهم ظلمة إلا في جنازاتِهم. أما في حياتِهم فنحنُ- لا الشنقيطي- هم من عارضَهم. وفي يوم المأتم تنقلِبُ الفِكرة. يسرقُ الصامِتُ إرث المتكلِّم ويفوزُ بالمعارضة التي لم يُظهِرها يوماً بهذا التشخيص والتعيين. أقول: ليس للإسلام تاريخٌ أخلاقيٌ واحِد. بل هو مسرحٌ لعدّة أخلاقيات. وإن خلافاتنا ليست أخروية. وهذا موقِفٌ مُسلِم أيضاً: الله يفعل ما يشاء في الآخرة؛ أما نحن فنتدافَع في الحياة الدُنيا. "ولولا دفع الله الناس بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض؛ ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالَمين".