محمد المختار ولد محمد فال
إذا كان السجن قد مثل أداة ردع ووسيلة عقاب لدى مختلف الدول والحضارات، فإن حرمان الإنسان من الإفصاح عن رأيه بحرية، هو سجن من صنف آخر، يشعره بالمهانة، وانتهاك كرامته الإنسانية.. يحرمه من أي إبداع، أو تعبير صادق عن الذات.
فالسجن، هو عقاب، يطال المستحق في الغالب وقد يتعرض له البريء أحايين أخرى.. لكن الحد من حرية التعبير خارج دائرة التقنين،
الذي تضعه دول تحترم حقوق الإنسان وتمجد كرامة الإنسان، هو اعتداء على الآخر وتدخلا صادما في خصوصية الأفراد والجماعات.
نظرة تاريخية:
شكل التحول الفكري والنضج الفلسفي لدى اليونان، منتصف القرن الأول قبل الميلاد تقريبا، محطة فارقة وغير مسبوقة، أعطت ل"المواطن الحر" وقتها الحق في أن يسير بفكره في الكون حيث شاء، وأن يعبر عن قناعته بكل حرية.. لكن مسيرة حرية التعبير والفكر تلك، واجهتها بعد ذلك محطات مظلمة ومطبات، لم تتجاوزها البشرية إلا بعد انتصار الثورة الفرنسية، التي جاءت بقيم الديمقراطية وحرية التعبير.
وفي فضائنا الإقليمي، لا زالت الصحافة المهنية، تصارع الاستبداد وشح الموارد وانعدام تقاليد راسخة، تتقبل إظهار القناعات الشخصية المخالفة، دون تقية أو محاباة.. الشيء الذي لا زال يلقي بظلاله على مختلف الجوانب في بلدان الإقليم.. لكن ثورة الاتصالات وما أفرزته العولمة من تشابك وتداخل بين الدول في مختلف جوانب الحياة، خلقا فضاء أرحب وسمحا بالتعرف على مختلف تجارب الأمم والشعوب، وخففا من القبضة الحديدية للأنظمة الديكتاتورية، وسطوة الأطراف الداعمة للدوغمائية وللانغلاق الفكري، فأصبحا كمن يسعى إلى السيطرة على الطيور بواسطة الحظائر.
حرية التعبير وتعقيدات واقعنا المعاش :
يقدم واقعنا الموريتاني نفسه وكأنه مستعص على الفهم والتغيير.. يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي والثقافي والاجتماعي، زاد من عتمته، هيمنة العسكريين على زمام الأمور بالبلد، منذ ما يقارب أربعة عقود، الشيء الذي تسبب في غياب تجربة ديمقراطية أصيلة وناضجة، رغم تضحيات الجيل المواكب لإرهاصات ظهور دستور 20 يوليو 1991م، والذي يعتبر فقيد الكلمة الحرة: حبيب ولد محفوظ، من أهم فرسانه، وأكثرهم تضحية وثباتا في الموقف.
فقد استخدمت السلط المتعاقبة في هذا البلد، كل الأساليب للحد من حرية التعبير، ولم تر فيها سوى مصدر إزعاج، ونهجا يقوض نفوذ الحاكم ويؤلب المواطنين على السلطة ويحرض العامة على التمرد ضد الدولة.. لذا شكلت حرية التعبير عدوها الأساسي، وسعت في المجمل إلى تدجين الصحافة وتمييع رسالتها، لتصبح مهنة تتسم بالارتزاق والتملق، أكثر منها أداة لإبراز الحقيقة.. تعري الواقع وتقدم مختلف الرؤى والتوجهات، فتكلست العمومية منها وتحولت إلى أداة أحادية الوجهة، مسخرة لتمجيد الحاكم وتشويه الوعي وتغييب الحقيقة.
كما حوصرت الصحافة الخصوصية، بالحظر تارة وبالتضييق المادي والمعنوي، وضخ عناصر موالين، تحت الطلب تارة أخرى، كي تصبح مهنة قابلة للتدجين عند أول اختبار.
إنها لعبة الاستبداد، الذي يرى في حرية التعبير عدوه الأول وفي تدجين الصحافة سنده الأساس وفي تغييب الشعب ضالته المنشودة، ل"ينعم" سدنته وحدهم بالسلطة وريع الدولة ومزايا المواقع العليا في هرم السلطة.
لكن المؤمنين بحرية التعبير وأصالة الكلمة في وطننا، هم اليوم أكثر تصميما وأشد استعدادا للتضحية.. يراهنون على الوقت ويرون في التحولات المتواصلة أملهم الأساسي ونصيرهم المستقبلي.. شعارهم:
" نعبر بحرية.. فنحن إذن موجودين".