مدينة نواذيبو الساحلية التي تقع غرب موريتانيا على شاطئ المحيط الأطلسي وتعد عاصمة البلاد الاقتصادية كانت على موعد مع حادثة غريبة لم يتوقعها أحد حملت اسم "طائرة نواذيبو".
لم تكن طائرة نواذيبو إلا مفتاحا فتح الباب مواربا في عالم المخدرات المعقد، لتترك أبواب مغلقة تقف دون فتحها شبكات معقدة تختلط فيها مصالح السياسة والمال.
هذا ما حاول فيلم "طائرة نواذيبو" الاقتراب منه وفك خيوطه في الحلقة التي بثت الأحد (2017/2/19) ضمن سلسلة "تحقيق خاص" التي تبثها الجزيرة.
مع غروب شمس الأول من مايو/أيار 2007 هبطت طائرة مجهولة في مطار نواذيبو (500 كيلومتر شمال العاصمة نواكشوط) وعلى متنها 600 كيلوغرام كوكايين، تضطر لترك أغلبها في المطار مكتفية بالهروب بـ"144" كيلوغراما ستهبط بها في الصحراء.
محطات عبور
مليارات الدولارات تدرها هذه المواد المخدرة، ولا تقف أمامها حدود الدول سواء التي تنتجها في أميركا اللاتينية أو محطات العبور التي تمثل موريتانيا ودول الساحل الغربي الأفريقي مسرحا لها.
كانت وكالة الأنباء الموريتانية صاحبة السبق في الكشف عن هذه الطائرة. أما المراسل السابق للتلفزيون الموريتاني عبد الله سديا فقد سارع لتجهيز أول تقرير تلفزيوني لحساب تلفزيون البلاد الرسمي.
سديا يفاجأ بأن ما تريده الحكومة في نواكشوط ليس ما يريده والي نواذيبو الذي -حسب قوله- رفض تصوير الطائرة.
لكن فريق التلفزيون تسلل عبر السور القصير للمطار وصور الطائرة لمدة 13 دقيقة، مشيرا في التقرير إلى أن هناك من سمح وعلم وربما قبض ثمن هذه العملية.
أما المادة المصورة للتقرير التلفزيوني فقد أفاد سديا بسعيه للحصول عليها، إلا أنه علم من أرشيف التلفزيون الوطني بإتلافها كليا.
إقالة المفتش
نتائج التحقيق الذي قاده المفتش العام للدولة محمد ولد حرمة توصلت إلى أن طائرة المخدرات القادمة من فنزويلا هي لمصلحة المدعو سيدي محمد ولد هيدالة واثنين من شركائه أحدهما بلجيكي.
وأوصى التقرير بإحالة عدد من الضباط إلى القضاء، غير أن ما جرى هو إقالة المفتش ولد حرمة وترقية هؤلاء الضباط.
أما أصحاب المخدرات المباشرون فقد هربوا جميعهم إلى خارج البلاد. ولكن هروبهم ليس هو القضية كلها، بل حجم الدعم الذي يحظون به، مثلما هي الحال مع ولد هيدالة.
فلولا حصوله على إسناد من مستويات عليا في نواذيبو لما اختار مطار المدينة الرسمي لتهريب المخدرات، بينما هناك مساحات واسعة في الصحراء تمكنه من إنزال طائرته فيها بعيدا عن الأعين.
كما أن طبيعة المدينة وصغر حجمها ومحاصرتها بمياه الأطلسي من كل الجهات باستثناء ممر ضيق يثير الشكوك في قدرته على الهرب لولا دعم سهل له المهمة.
الفيلا والباص
منذ مايو/أيار 2007 ستبدأ قضايا مخدرات أخرى بالتفجر، أبرزها ما عرفت باسم قضية "الفيلا" وأخرى قضية "الباص"، مما أثار الغرابة: كيف يثار كل هذا الضجيج بينما يجري التكتم على طائرة نواذيبو؟
إبراهيم ولد ابتى، محامي موظفي برج المراقبة اللذين فصلا عقب الحادثة، يقول إن التعاطي مع الجريمة في موريتانيا ما زال يفتقر إلى تمكين القضاء فـ"القضاء هو آخر من يعلم، والشرطة هي أول وآخر من يعلم وهي التي تحيك وتدبر كل شيء".
وبرأيه، يبدو هذا الدور واضحا من خلال إشغال الشارع بقضايا الباص والفيلا وما دار حولهما من إشكالات مع تغييب تام لقضية الطائرة والمتهمين الأساسيين الذين فروا خارج البلاد من غير أن يقبض عليهم ولا أن يحاكموا غيابيا حتى الآن.
تحولات طائرة
أما الطائرة التي ستعود للمطار وتربض فيه ستة أشهر، فإنها حسب عسكري سابق سترسل إلى ناميبيا للصيانة وسيوضع عليها علم موريتانيا.
لقد تحولت الطائرة إذن من تهريب المخدرات إلى طائرة عسكرية تقل المسؤولين من طراز V.I.P، كما يقول العسكري الموريتاني.
ولد أبتى يقول هنا إن تغيير هوية الطائرة يعني إتلاف أدلة أخرى لقضية لم تنته بعد.
يلخص نائب الأمين العام للأمم المتحدة سابقا أحمد عبد الله المشهد قائلا إن العديد من حكومات دول المنطقة أدركت نهاية التسعينيات أنها رغم كونها دولا فقيرة، فإن أموالا طائلة تمر من هنا ولا بد من الاستفادة منها.
ويمضي قائلا إن لسان الحال يردد "ما يمر من هنا لا نستهلكه، بل أراضينا للعبور فقط، فلا ننتج مثل دول أميركا اللاتينية، ولا نستهلك مثل أوروبا، لذا أعطونا الأموال مقابل ذلك فنغمض أعيننا ونستفيد من هذا العبور".
انطلق الفيلم الاستقصائي من حادثة الطائرة التي هبطت على أرض موريتانية إلى خارطة واسعة، بدت فيها الطائرة جزءا صغيرا من عالم يتحرك في البحر وبرا في الصحراء الأفريقية وجوا من غرب أفريقيا إلى أميركا اللاتينية وبالعكس.
لكن إغلاق الصفحة على واقعة نواذيبو، أو بتعبير المحامي ولد أبتى "إغلاقها حتى مستقبلا"، إنما يراد منه أن تنام مافيات الحشيش والكوكايين ليلها الطويل دون منغصات، وبالتأكيد دون الحاجة لمواجهات مع دول توصف بـ"الهشة".