جلس الإنقلابي متجهماً، على كرسيه المضبب بالأصفر، ترسل ملامح وجهه الغاضب أشعة سينية و فوق بنفسجية.. فكانت البسمات التي تغالب شفاهُ الحاضرين الافترارَ عنها تذوب أمام صرامة ملامحه، كما يذوب الشمع في صهد الظهيرة.
جلس تحفه صحافة ترتعد فرائصها فَرَقاً أن تغْضِب ربّ البر و البحر و “الاشتراكات” و الدعم العمومي، و تقابله سيدة أولى تعرفه كما تعرف هيلاري زوجها بيل.. تضحك في سرّها من عثرات الزمن الذي علّمه التربع على الكراسي، فتهمس لسرّها كلما سالت الأباطح بأعناق ترهاته: الله يطيّر امِّيهْ* هذَ مكيذبُو..!!..
أخذ السياسيون مقاعدهم، و طفقوا يضحكون لنكته السمجة، و يهزون، في حركات أراجوزية، رؤوسهم طولا..
جلس جميع رؤساء الأحزاب المجهرية، و كأنهم تلامذة في حضرةٍ صوفية، يقتبسون من أنوار “الفرد الجامع” ما يستنيرون به في دُجنة ليلهم النابغيّ البهيم.
كانت وجوها نعرفها كلما تعلق الأمر بفساد أو سوء تسيير، أو تبارى المطبلون في آماد التزلف لا يلوي أحدٌ منهم على أحد.
.. و في الأخير تكلمت عيشَ رخمة.. انتفخت أوداجها، و جحظت عيونها، و انجلى ما تكاتم من غيظ و تخفي من توتر.
كل عضلة في وجهه الدميم تؤكد أن صفعة الشيوخ أصابته بشلل نصفي، حتى بدا كملاكم يترنح في حلبة سقط على أرضها بضربة قاضية.. كان أشبه بعود قصَب خوت أجوافه و إن ظلّ محتفظاً بنضارة لَحَاه.
استهلّ ولد عبد العزيز حديثه بتمجيد “المقاومة”، التي لم تتفتق عبقريته عن فكرة لتخليدها بغير شفتين حمراوين، كشفتي مومس.. و كأن تاريخنا لا يتضمن من استعباد الناس و اضطهادهم و تصفيتهم لدوافع عنصرية ما هو أولى بالتخليد..
و في سابقة في خرجاته الإعلامية، أشاد الجنرال في مقدمته (المؤخرة) بأبطال الجيش الوطني و بدورهم في الحوزة الترابية، و هو مدح لم يلبث أن استحال قدحاً، حين انتهى إلى أنه ما كان للجيش الموريتاني أن يكون لولا ولد عبد العزيز.
و عندما شرع في حديثه عن “الشيوخ” تدافعته التناقضات، فهم “غير أخلاقيين” و “خارجون عن إجماع أغلبيتهم” و “معرقلون للمسار الديمقراطي و التشريعي”، غير أن “لهم الحق فيما قاموا به” و “هم رجاله، و لن يتدخل أغراب المعارضة في معاملته لهم”.. ثم يسوق تهديده الضمني بـأنه “إذا كان هنالك من عليه أن يعاقبهم فهو لا غيره”.
لا تخفي النبرةُ المهادنةُ للشيوخ و المتملقة للمؤسسة العسكرية الخوفَ الذي يسيطر على الرجل، من احتمال انتفاضة عسكرية للجيش، أو مدنية للشيوخ.. فالرجل الذي لا تلين قناته لسلطان واجب أو محظور، لا يتواضع إلا لمن أولاه جانباً صلباً، كالشيوخ و المؤسسة العسكرية و الشباب الذي خفض لهم جناح الذل أيام عواصف الربيع العربي..
“الرجل يلين للصلب و يصلُب للناعم اللّدن”.. هذا ما تثبته تصريحاته المتواضعة عن الجيش و الشيوخ.
لقد تقمص الرجل وجه الفولاذ، و كَسِيَ جلد وحيد القرن، حين تحدث عن إنجازاته، و عن حسن تسييره و نجاعة حربه على الفساد، و تكريسه للديمقراطية و حرية الممارسة السياسية، رغم أن كل ما في القاعة يكذّبه:
– و جه تكيبر بنت أحمد الذي تنفر منه المساحيق، و ما اختلسته من المال العام، و نهبته من العقارات و الأراضي، و استغلت من سلطة و نفوذ.. و ديناصور الفساد يحي ولد حدمين الذي سَرق حتى الكحل من أهداب فاتو بنت لمعيبس.. و “أطرش الزفة” مولاي ولد محمد لغظف، الثعبان الأدرد الذي لا يستطيع أن يلدغ حتى إن أراد.. و النواب الذين نالوا من الرشاوي ما جعل منهم أرشية لمنهل أطماع الجنرال الدستورية.
أما الشواهد على فساده السياسي، فما تجمّع في القاعة من بطون و جيوب، و أحزاب حقائب.. و أخرى معدلة وراثياً، أو مسوّقة لخطاب عنصري، أو مالئة عليقة عَلف لحيواناتها، أو انشقت عن حزب آخر بعد بكاء أمِّ تريد مستقبلاً لأبناء أصابتهم العين و أخطأهم التعيين.. و معارضة أكثر كذباً من الموالاة، فالموالاة إنما تكذب حين توالي، أما المعارضة الموالية فتكذب حين توالي و حين تعارض.
ضربت الأيام بعصاها البحر فانفلقت عن جنرال فيلسوف يتحدث عن القيم و اختلاف مفاهميمها، في مجتمع ذي مرجعية أخلاقية و عقائدية متطابقة.. و عن خبير دستوري يلوي أعناق النصوص، كما تلوي الشرطة أعناق اللصوص.. فـ “لا رجعة عن امتطاء صهوة المادة 38 صعباً كانت أم ذلولاً”.
… أرخى الليل سدوله، و انتهى المؤتمر الصحفي، و نام الرجل ملء جفونه عن شواردها، و تعثر الخليل ولد الطيب بثوب داوود ولد أحمد عيشه عند الباب، و هما يتسابقان لشرح مضامين خطاب سليمان الحكيم. أما الحقيقة الكاشفة فإن المؤتمر الصحفي إنما أسفر عن نمر من ورق و عملاق رجلاه من صلصال.. و أنه عندما تحترق روما سيجلس نيرون في شرفة قصره، واضعا رجله على أختها، و كأس Chateau Lafite الراغي يرتعش في صينيته و هو يعزف قيثارته الطروب.
——————
*إمِّيه هو اللقب الذي يخاطب به أبناء الرئيس ولد عبد العزيز أباهم. )