أزمة الشيوخ... المسار والمآلات ـ مقال
كشف تصويت أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ ضد مشروع التعديلات الدستورية الذي تقدمت به الحكومة إثر حوار أحادي الصوت والمنحى، عمق الأزمة التي يعيشها النظام لا في علاقته مع الشعب والمعارضة بشكل عام، ولكن داخل أغلبيته وبنيته الصلبة، وكشفت أيضا أن منهج الاحتقار والاستهزاء الذي استمرأه الرئيس محمد ولد عبد العزيز في تعامله مع البشر القاطن في هذه البلاد، لن ينبت غير "....." متواصل لهيبته خارجيا وداخليا.
أصعب ما في هذا الانهيار غير المسبوق لسمعة الرئيس وهيبته أنه يأتي مثنيا لانهيار خارجي آخر، بعد الوساطة الفاشلة التي قادها في دولة غامبيا والتي أتت أكلها في خسارة موريتانيا لملف إستراتيجي مهم، وإن عادت بخفي يحيى جامي لا أكثر.
إن الأزمة الحالية هي نتاج للأحادية، ونتاج أوسع لاحتقار الآخر ولفرض رأي غير متناسق لدى صاحبه على الآخرين، ولقد ظل مجلس الشيوخ وهو الركن الركين في البناء المؤسسي للدولة الموريتانية عرضة لمزيد من الاحتقار من قبل الرئيس ووزرائه، ثم أصبح الأمر سمة فاعلة من خلال الجراء الصحفية التي ثقبت حناجرها أخيرا فسال لعابها هجائيات وقذعا وسبابا قد يؤدي بأصحابه إلى سجن طويل عريض إذا قرر الشيوخ محاسبة الذين أهانوهم بالسباب الموثق في مقالات طويلة عريضة تافهة.
جذور الأزمة
تعود أزمة الشيوخ إلى شحن من الاستهزاء حملها أعضاء من الحكومة مما يفيض عليهم رئيسهم وأرادوا قذفها إهانة واستهزاء بمجلس الشيوخ، وقد وقف الشيوخ ضد هذه المعاملة السيئة، وأوقفوا علاقتهم مع الحكومة حتى يعتذر وزراؤها المسيئون، وقد حصل شيء من ذلك خلال اجتماعات مع الوزير الأول يحيى ولد حدمين، ورئيس الحزب الحاكم سيدي محمد ولد محم الذين التقوا شيوخ تيارهم السياسي واسترضوهم، وذلك بعد لقاءات مماثلة مع الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
وقد خرج الطرفان أي المجلس والسلطة التنفيذية بمرحلة انتقالية من العلاقة، وذلك من خلال بيان للمجلس أكد فيه استمرار استقباله للوزراء، مع التأكيد بأن أزمة الثقة لم تنته وأن تجاوز المادة: 99 من الدستور غير ممكن، مما يعني وعيا من الشيوخ بمركزية دورهم في الهرم السلطوي في البلد.
ولقد كان هذا الخلاف أحد أبرز بوابات خطاب النعمة، الذي صب فيه الرئيس جام غضبه على مجلس الشيوخ وأوعد بحله، ووعد بمجالس جهوية لا تعني أكثر من بوابة نحو التشتت والانفصال وإضعاف مركزية الدولة.
لقد عمل الشيوخ طيلة هذه الفترة على رص صفوفهم وعملوا كوحدة متكاملة من خلال تشكيل لجنة أزمة للمتابعة، وظلت اللجنة تمارس عملها تارة في مكاتب الشيوخ وتارات أخرى في منازل بعض أعضائها، وذلك ضمن برنامج سياسي وإعلامي واضح.
مما يؤكد أن الأزمة كانت ولا تزال عميقة، وأن أطرافا من النظام عملت على مغالطة الرئيس حول وضعية الشيوخ،
ومع بداية الحوار طالب الشيوخ بحوار واسع وشامل بين كل الموريتانيين، وطالبوا بأن يكون البرلمان بوابته لكن أطرافا عدة وقفت في وجه ذلك.
واصلت الأزمة تفاقمها الصامت، وواصلت الحكومة ورئاسة الحزب الحاكم مغالطة الشعب والسلطة في شأن بعض اللقاءات الفاشلة التي كانت تعقدها مع شيوخ من الأغلبية ثم تسرب للإعلام أن الشيوخ عجينة في يد السلطة وأنهم طائعون راغبون قبل أن ينكشف الصباح عن غير ما توقع السلطان وما نمقت له عيونه وآذانه.
ومع الزمن زادت حدة بعض الوزراء في تعاملهم مع الشيوخ الداعمين لنظامهم، فهددهم مرة وزير العدل بأنه سيشي بهم إلى الحكومة ويخبرها عن خروجهم عن بيت الطاعة وأكد لهم وزير العلاقات مع البرلمان بأنهم " شيوخ لا يصلحون لشيء"!.
هل إلى حل من سبيل
أما وقد وقع ما لم يكن متوقعا، نظرا لسوء قراءة السلطة لمقدماته التي أنتجت خاتمة لم تشتهها سفن السلطة فقد آن أن يحضر للعقل والمنطق نصيب في مآلات هذه الأزمة، ولعل من أبرز المآلات:
- الرجوع إلى حوار شامل لكل الأطراف السياسية والسعي إلى حل وسط وتنازل السلطة عن عنجهيتها التي لم تنتج غير عزلة خارجية وفشل داخلي عميق وهيبة وسمعة في أعماق الحضيض.
- إقالة الحكومة الحالية وترتيب البيت الداخلي للأغلبية، فقد بات أوهن من بيت العنكبوت وأكثر تآكلا واهتراء من الشعارات التنموية التي رفعها النظام طيلة سنوات التسع العجاف.
- استدعاء الاستفتاء الشعبي وهو خيار مخالف للدستور في الوضعية الحالية وسيؤدي إلى مزيد من التعقيد ويزيد رقعة التشتت داخل الأغلبية المتآكلة للنظام.
ولعل الخيار الأسلم هو استدعاء هيئة الناخبين لمجلس الشيوخ والعمل على تجديده، ومن ثم العودة إلى الحوار الوطني الشامل الكفيل بحل الأزمة وقطع الطريق أمام أحلام الاستبداد والبقاء في السلطة، وهو أيضا كفيل بأن يعيد للنظام مزعة من سمعته المهترئة.
تلك نصيحة فأين أذن السلطان.