شهدت السنوات الأخيرة انكشافا حادّا للموقف الغربي -ولاسيما الأوروبي- من استمرار رجب طيب أردوغان في قيادة الدولة التركية، ومن الرؤية الأوروبية لتركيا موقعا ووظيفة، ومما يبدو مشروعا يقوده أردوغان ويذهب بتركيا بعيدا عن تلك الرؤية الغربية.
حتى إن السلوك الغربي اتسم بعداء شديد يستهدف أردوغان شخصيّا، متجاوزا الاعتبارات المقيدة للخطاب الرسمي إلى سفور كامل في المجالات غير الرسمية، كما في المؤسسات الإعلامية والأكاديمية.
في راهن الأزمة
السفور ظل يتمدد من المجالات الوسيطة إلى المجال الرسمي، حتى تحلل نسبيّا من التحفظ الدبلوماسي بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليو/تموز 2016، وفي الأزمة الدبلوماسية الأوروبية التركية الحالية الناجمة عن السياسات الأوروبية تجاه تعديلات الدستور التركي، المزمع الاستفتاء عليها في 16 أبريل/نيسان القادم.
استبطن الموقف الأوروبي تعاطفا مع المحاولة الانقلابية دلّ عليه تباطؤ الأوروبيين في الانسجام مع قيمهم الديمقراطية المعلنة، وتلكؤهم في إدانة الانقلاب ودعم ممثلي المؤسسة السياسية الشرعية (رئاسة وبرلمانا وحكومة)، ثم في إدانتهم إجراءات الحكومة التركية الأمنية التي استهدفت بها ما تسميه "التنظيم الموازي" المتهم بقيادة المحاولة الانقلابية الفاشلة.
"استبطن الموقف الأوروبي تعاطفًا مع المحاولة الانقلابية بتركيا دلّ عليه تباطؤ الأوروبيين في الانسجام مع قيمهم الديمقراطية المعلنة، وتلكؤهم في إدانة الانقلاب ودعم ممثلي المؤسسة السياسية الشرعية، ثم في إدانتهم إجراءات الحكومة الأمنية التي استهدفت "التنظيم الموازي""
وبكلمة أخرى؛ كانت الدبلوماسية الغربية (ممارسة وخطابا) أقرب إلى التعاطف مع المحاولة الانقلابية أثناءها وبعد فشلها، بينما هي الآن تجترح -بخصوص التعديلات الدستورية التي يروج لها حزب العدالة والتنمية التركي- سياسات تتخفف من الحصافة الدبلوماسية وتلتصق بالطبائع الشعبوية، مما يعني ضرورة محاولة التأثير على السجال التركي حول الاستفتاء الدستوري، على الضدّ من خيار أردوغان والحزب الحاكم.
الجاليات التركية في أوروبا -البالغة أربعة ملايين تركي أكثرهم في ألمانيا- هي محلّ النزاع المكشوف بين أردوغان وأوروبا، التي تتصدرها في هذه المسألة حتى الآن ألمانيا وهولندا.
فقد منعت ألمانيا تجمعات تركية مؤيدة للتعديلات الدستورية المقترحة بينما سمحت لفعاليات تركية أخرى معارضة، وكذلك سبق للنمسا وسويسرا أن حظرتا تجمعات مؤيدة للتعديلات الدستورية، ودخلت الدانمارك على هذا الخط أخيرا، بينما بلغت الأزمة ذروتها مع هولندا التي منعت هبوط طائرة وزير الخارجية التركي الذي كان ينوي المشاركة في فعاليات مؤيدة للتعديلات.
بداهة تتخذ هذه الإجراءات شكل التدخل الخارجي في الشأن الداخلي التركي، باستخدام أدوات السلطة في بعض الدول الأوروبية لهندسة السجال التركي الداخلي في الجاليات التركية بأوروبا، بما ينسجم مع موقف تلك الدول الأوروبية من شخص أردوغان ومشروعه والتعديلات الدستورية المقترحة، ولكنها فوق ذلك تدلّ على هواجس أوروبية مركبة تجاه الذات وتجاه تركيا، ومشبعة بالحساسية والقلق والتوجس.
هذه الهواجس هوياتية واستعمارية في الوقت نفسه، دون أن تخلو الإجراءات الأوروبية التدخلية الجارية ضد التعديلات الدستورية، والتصعيد الدبلوماسي المتعمد من طرف الأوروبيين، من دوافع سياسية آنية متعلقة بالتدافع الأوروبي الداخلي مع الصعود المتعاظم لليمين بأوروبا، واحتمالات فوز أحزابه في الاستحقاقات الانتخابية التي ستشهدها عدة دول أوروبية خلال 2017.
وبمعنى ما؛ فإن الإجراءات الأوروبية ضدّ أردوغان لا تخلو من المزايدات الداخلية على اليمين المتطرف لأسباب انتخابية، وهو أمر غير بعيد تركيًّا أيضا، إذ تخدم استثارةُ الحسّ القومي التركي إنجاحَ مشروع التعديلات الدستورية.
أكبر من حسبة انتخابية
ثمة الكثير مما يمكن قوله ليجعل الأمر أكبر من مجرد حسبة انتخابية داخلية، ومن ذلك مثلا الوقائع المتكاثرة في السنوات الأخيرة الدالة على كراهية أوروبية لأردوغان، والرفض الأوروبي المزمن لالتحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي، رغم منح عضويته لدول شرق أوروبية أدنى مستوى من تركيا اقتصاديّا وسياسيّا وديمقراطيّا.
"رغم معارضة دول القارة الأوروبية لانضمام تركيا حلف الناتو، كما تقول وثائق سرية كشفت عنها "سي آي أي" في وقت سابق من هذا العام؛ فإن هذا الانضمام -الذي استخدم تركيا لمواجهة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، ولم يكن متكافئا رغم العضوية الكاملة- رسّخ الهيمنة الغربية على تركيا"
فقد تمددت الدولة العثمانية شرق ووسط أوروبا، وانتزعت قبل ذلك القسطنطينية من الإمبراطورية البيزنطية فدوّى هذا الحدث في الضمير الغربي كثيرا وطويلا.
لكن -ودون الإغراق في العودة إلى هذا التاريخ- ينبغي القول إن دولة بهذا الإرث وفي الموقع الجغرافي الذي تحتله تركيا الحديثة، لا بدّ من أن تستفز هواجس القلق في أوروبا، وتستدعي في ضميرها الكراهية من جديد.
ينبغي التذكير هنا بأن اتفاقية سايكس بيكو -وهي اتفاقية طرفاها أوروبيان- كانت في الواقع تقسيما لأراضي الدولة العثمانية، وبعد ذلك اتفقت بريطانيا وفرنسا على منح ما يعرف اليوم بأنطاليا لإيطاليا، وقبل ذلك اتفقت الدولتان مع روسيا -في اتفاقية القسطنطينية- على منح إسطنبول لموسكو.
وعلى أية حال؛ فإن النتائج العسكرية المباشرة للحرب العالمية الأولى لم تقتصر على احتلال ولايات الدولة العثمانية العربية، بل احتُلت أيضا أراضٍ واسعة مما صار -بعد حرب الاستقلال- تركيا الحديثة.
بداهة كان التراجع العثماني لصالح القوى الأوروبية الصاعدة، وحتى عمليات الإصلاح داخل الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر كانت تؤسس لتبعية تركيا لأوروبا، وهو الأمر الذي تعزز بعد ذلك مع حكومة الاتحاد والترقي، ولكن الأكثر مفارقة هو أن قيادة حرب استقلال تركيا (1919 - 1922) أخذت تركيا أكثر نحو التبعية للغرب.
ورغم معارضة دول القارة الأوروبية لانضمام تركيا حلف الناتو، كما تقول وثائق سرية كشفت عنها "سي آي أي" في وقت سابق من هذا العام؛ فإن هذا الانضمام -الذي استخدم تركيا لمواجهة الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، ولم يكن متكافئا رغم العضوية الكاملة- رسّخ الهيمنة الغربية على تركيا، لا سياسيّا فحسب بل على مستوى بنية الدولة وأجهزتها ومؤسساتها.
ومع مجيء أردوغان أخذت تركيا تتغير بما يستتبعه تغير موقع تركيا بالنسبة للأتراك، ومع أن المهمة كانت ضربا من المستحيل نظرا للعقبات الهائلة التي تواجه مشروع أردوغان، فإنه تمكن -وباستخدام شروط الانضمام للاتحاد الأوروبي نفسه وعوامل أخرى- من الحفاظ على استمراره في الحكم، مستفيدا من نجاحات اقتصادية هائلة عززت النزعة الاستقلالية لديه.
المشروع الأردوغاني
مساعي الاستقلال التي يقودها أردوغان الآن تتحرك في مجالات متعددة، ابتداءً من الدور الذي أخذ يتحرر من القيد الوظيفي لصالح الاعتبار الذاتي، وقد تجلى ذلك في جملة من المواقف كان أبرزها الحضور التركي الضخم في أحداث الثورات العربية، وطبيعة تدخله في سوريا والعراق، ومعارضته الشرسة للانقلاب في مصر، وهو ما لا ينسجم مع المواقف الغربية عموما أميركية وأوروبية.
وبطبيعة الحال؛ لا يمكن الاكتفاء بالرافعة الاقتصادية لتحرير الدور التركي من وظيفته المحددة غربيّا، إذ لا بد من تحرير بنية الدولة من الاختراق الغربي، وهي المهمة التي تعني -بوجه ما- مواجهة فعلية وقاسية مع الغرب الذي استحوذ على تركيا، وكرّس جهوده للهيمنة على نخب الدولة وجهازها البيروقراطي طوال عقود.
"لم يكن مبالغةً ما قاله أردوغان -بعد فشل الانقلاب- من أن تركيا "تخوض حرب استقلال ثانية"؛ فحتى هوية تركيا دولة ومجتمعا رزحت تحت عُقَد الاستلاب والانبهار والهزيمة تجاه الغرب، وتحريرها من ذلك وإعادة صياغة هويتها بعناصر تشكيل ذاتية أصيلة لم يكن معركة سهلة"
وبهذا يمكن فهم الفزع والغيظ الأوروبييْن بعد فشل المحاولة الانقلابية، أو الآن فيما يتعلق بالتعديلات الدستورية التي من شأنها أن توفر قاعدة صلبة لعملية إصلاح جهاز الدولة وتنظيفه.
لم يكن مبالغةً ما قاله أردوغان -بعد فشل الانقلاب- من أن تركيا "تخوض حرب استقلال ثانية"؛ فحتى هوية تركيا دولة ومجتمعا رزحت تحت عُقَد الاستلاب والانبهار والهزيمة تجاه الغرب، وتحريرها من ذلك وإعادة صياغة هويتها بعناصر تشكيل ذاتية أصيلة لم يكن معركة سهلة لصعوبتها داخليا، ولما تستثيره من استجابة أوروبية عكسية في مجال أوروبي يتنامى فيه القلق والحس الهوياتي.
في هذه النقطة تحديدا؛ يجدر التذكير بالجاليات التركية الضخمة في أوروبا، والتي من شأنها أن تضغط على عصب القلق الأوروبي الهوياتي، مع تنامي الحس الاستقلالي والقومي لدى الدولة التركية، لاسيما مع صعود مكانة واقتصاد تركيا، بما يمكّن من رفع شأن أبناء الجاليات التركية، لينتقلوا من عمال متواضعين في المصانع الأوروبية إلى أصحاب حضور أقوى ماديّا ومعنويّا.
وإذا كان الانحدار التركي -الذي حصل عبر عقود- يعني في النتيجة استعمارا غربيا مقنّعا ولكنه صلب وراسخ، فإن الصعود التركي الجديد لن يعني تحررا من هذا الاستعمار فحسب، بل سيأخذ أيضا شكل التفوق على أوروبا، بالنظر إلى احتمالات التفكك الأوروبي القائمة والتي تجعل الدول الأوروبية أكثر ضعفا مع صعود قوى جارة وكبيرة، لديها إرث إمبراطوري وممكنات ذاتية كتركيا وروسيا.
الموقع الذي تحتله تركيا يؤهلها لأن تكون مركزا لوجستيّا للطاقة، بربطها ما بين مراكز استخراجها -في الشرق الأوسط وأواسط آسيا- وأوروبا التي هي واحدة من أكثر مناطق العالم استخداما للطاقة، وهو أمر في طور التحقيق -عبر مشروع "السيل التركي"- إن استمرت العلاقات التركية الروسية في التحسن.
وتركيا التي تربط آسيا بأوروبا والشرق بالغرب مؤهلة لمكانة أعظم، وهو ما تشتغل عليه الحكومة التركية الحالية بتعزيز بنيتها التحتية وموانئها ومطاراتها، بالإضافة إلى سعيها للاندماج في مشروع طريق الحرير الجديد الصيني الذي تسميه بكين "حزام واحد، طريق واحد".
وعلى أي حال؛ فإن أي نهوض مشرقي إسلامي يضرب الأيديولوجية الغربية الاستشراقية الموظفة استعماريّا لأغراض الهيمنة المادية وتحقيق التعالي الثقافي، وهذا أحد أوجه استفزاز المشروع الأردوغاني للكراهية الأوروبية.
ولفهم الرؤية الغربية لتركيا هوياتيّاً يمكن استدعاء تصريح الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي الذي قال "إن أوروبا لن تقبل انضمام دولة سكانها سبعون مليونا من المسلمين"، واستعماريّا يمكن ملاحظة الكامن الاستعماري في مقولة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بأنه "لا عضوية ولا قطع للتفاوض حول الانضمام".
وتشبه هذه النظرية نظرية إسحق شامير بشأن المفاوضات مع الفلسطينيين، أو نظرية بنيامين نتنياهو الجارية، بمعنى مفاوضات أبدية لا تحقق استقلالا أو تكافؤاً، وإنما تضمن تبعية دائمة.