سليم عزوز
عندما تتلخص كل مطالب أسرة محمود حسين، الصحافي المصري في قناة «الجزيرة»، في مجرد وقف عقوبة الحبس الانفرادي التي يخضع لها، فأعلم أن الرجل يتعرض لمحنة قاسية، عبرت عنها كريمته «الزهراء محمود حسين»، في رسالة لوزير الداخلية، بقولها إنه يتعرض للاختناق والتعذيب البدني والنفسي من جراء ذلك. ولكن هل يسمع الصم الدعاء؟!
أزمة محمود حسين هي أزمة الإنسان الفرد في مصر، الذي لا ينتمي لتيار، ولا ينخرط في حزب، ولا ينضم لشلة، وإنما هو ابن مهنته في بلد جرى فيها تغييب المهنة، حتى صارت من أساطير الأولين، كما أن أزمته في أنه ليس صحافياً خواجة، أصفر الشعر، أخضر العينين؛ فلا يحمل جنسية بلد أوروبي، حتى يصبح اعتقاله سبباً في تداعي الجسد الغربي له بالسهر والحمى!
هذا فضلاً عن أن محمود حسين، ليست له ارتباطات غربية، حتى يدفع اعتقاله إلى إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنه يشعر بالقلق، وفي مرات سابقة منح بان كي مون، صفة الصحافي لمن ليس صحافياً بالمعايير الأوروبية ذاتها، لتسهيل مهمة حامل الصفة، وربما لتبريره تقديم معلومات لجهات أجنبية، لا يتسامح معها القانون الأمريكي على رحابته، لكن لأن صاحبنا محمود لا يعمل لصالح المنظمات الغربية، فلم يشعر بان كي مون وخليفته بالقلق، ولم يشفع له أنه صحافي حقيقي، ليس منتحل صفة، وإعلامي جاد وليس مدعياً لاستكمال الشكل في مهمة تقديم معلومات لجهات خارجية.
ولأنه كذلك، فيتم اعتقال محمود حسين في مصر، فلا يتحرك ولو الإعلام الغربي لإنصافه، وتجربة معتقلي الجزيرة الانكليزية، والزخم الإعلامي الدولي حولها جعلتنا نظن أن الصمت في بداية الأمر، راجع لأن اعتقال محمود كان في فترة أعياد الميلاد، ولا بد أن الإعلام الغربي سينتفض كما انتفض من قبل، ولم ننتبه إلى أن صحافيي الجزيرة الانكليزية كانوا ثلاثة، اثنان منهم «خواجات»، أحدهما «خواجة» كابرا عن كابر، والثاني «خواجة» بالتبني. الأول لأنه استرالي أباً عن جد، والثاني يحمل الجنسية الكندية، لكن محمود ليس من أب استرالي، ربما آخر حدود معلومات والده المرحوم حسين عن استراليا، أنها من استوردت منها مصر قبل ثلاثين عاماً «أبقار الفريزان»، المعروفة بقدرتها على تكوين كميات كبيرة من اللحم واللبن، بشكل تتفوق فيها على الأبقار المصرية، لأن شهيتها في الأكل مفتوحة، كحريم استراليا!
عقوبة الحبس الانفرادي
كما أن محمود لا يحمل الجنسية الكندية، أو غيرها من الجنسيات سوى المصرية، التي صار المصريون معذبين بها، لأنها بمفردها تمكن السلطة العسكرية من البطش بحاملها، وعندئذ تمنع العنصرية الغربية المنظمات الدولية والحقوقية من التدخل لإدانة هذا العدوان على الكرامة الإنسانية، فيتحول السجين إلى أسير، تستقوي عليه السلطة المهزومة في كل الميادين، فتتقلص مطالب الأسرة إلى حد تحسين شروط حبس أسيرها، ويتم اختزال هذه الشروط في شرط واحد هو فقط وقف عقوبة الحبس الانفرادي!
وهذه العقوبة لا يتم إنزالها إلا على من يرتكب داخل سجنه جرائم ومخالفات لمدونة السلوك، فتكون عقوبة على فعل، أو أن يخضع لها متهم قوي التأثير ويخشى من انتقال أفكاره المتطرفة للمسجونين!
ومحمود خضع للحبس الانفرادي في ذات اللحظة التي سجن فيها، فلم يكن قد ارتكب مخالفة للوائح السجون، أو اعتاد الشغب، فهو رجل مسالم يحبه كل من تعامل معه، وقد نجح في أن ينقل روح القاهرة إلى الدوحة عندما حل عليها بعد الانقلاب ليعمل في مقر «الجزيرة»، وبعيداً عن الشأن المصري تماماً، وإذا بالسهرة تحلى على المقهى، الذي كل من يعمل فيها من الهنود، فيمزح معهم ويمزحون معه، «فخير الناس من يألف ويؤلف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف»، وذات ليلة وعندما زادت جرعة الفكاهة من حشد المصريين حول محمود حسين، انصرف الجالسون من أهل البلد في هدوء، وقلت يومها السيسي نكد علينا فتركنا بلدنا لننكد على الناس ليتركوا بلدهم لنا، يا له من إنسان لديه قوة قتل ثلاثية. متذكرا بذلك إعلان تلفزيوني عن مبيد حشري!
وقد افتقده العمال الهنود، فيقف الواحد منهم أمام «برومو» الجزيرة عنه عند إذاعته محاولاً الفهم، وربما عرفوا أن محمود حسين اعتقل في القاهرة، والمعتقلون في العالم الثالث يكون اعتقالهم باتهامهم بالإرهاب، فيهتف هاتفهم عند مشاهدة «البرومو» الذي تحول اللغة دون فهمه، «محمود حسين مو إرهابي.. محمود حسين نفر زين»!
وهذا «النفر الزين»، ليس داعية يخشى عليه من نقل أفكاره المتطرفة للآخرين والتأثير فيهم بشكل يحملهم على اعتناقها، فتكون العقوبة هي حبسه انفرادياً لمنعه من التأثير في السجناء!
اختراق مبنى التلفزيون
وفي الحقيقة، أن هذا الحبس الانفرادي يعود في جانب منه إلى أن الانقلاب الغاشم عندما ألقى القبض على محمود حسين ولم تكن هناك قضية جاهزة، فاعتقلوه ليرتبوا له قضية، وقد خرج من القاهرة عبر المطار فلم يكن مطلوباً على ذمة أي قضية، وزار القاهرة أكثر من مرة من المطار أيضا، وكل ما فعلوه في المرة الأخيرة أنهم استوقفوه لساعات قبل إخلاء سبيله، بشكل يؤكد أنه ليس مطلوباً بشكل قانوني، وعندما اعتقلوه بعد ذلك أضحكوا الثكالى عندما وجهوا له الاتهام بالانضمام لجماعة إرهابية، فأي عنصر إرهابي هذا الذي اختراق مبنى التلفزيون المصري الذي عمل فيه لربع قرن، في وقت كان قطاع الأمن بمنى ماسبيرو قد توحش ليصبح أكثر عدداً وأهمية من قطاع التلفزيون!
وبالشكل الذي جعل وزير الإعلام في عهد الإخوان صلاح عبد المقصود يقول إنه دخل المبنى وبحث عن الإخوان فيه، فلم يجد سوى واحد أو إثنين، ولم يكن من بينهم محمود حسين، الذي رشح للوزير لاختياره رئيساً لقناة «النيل» الإخبارية للنهوض بها، والترشيح كان لاعتبارات مهنية، ووضع صاحبنا شروطاً للعمل مراهناً على قدرته منافسة «الجزيرة»، ولم يستجب له، فاعتذر عن تولي المنصب، ولتظل «النيل الإخبارية» في ضعفها وهوانها على الناس، بعد عصرها الذهبي في عهد حسن حامد، وهي المرحلة التي تفتق فيها الوعي المهني لمحمود فأصبح واحداً من أهم الصحافيين التلفزيونيين في مصر.
عندما بدا اتهامهم لمحمود حسين بالانضمام لجماعة محظورة سخيفاً كان اتهامه بالضلوع في الفيلم الوثائقي «العساكر»، لكن الأمر أيضاً تحول إلى نكتة أكثر سخفاً لأن محمود كان ضد هذا العمل قبل بثه، فكان أن وقعت السلطة في «حيص بيص»، ثم أظهروه وقد بدا أنه تعرض لضغوط هائلة وسط أجهزة تلفزيونية ليقول إن هذه هي المعدات الخاصة بـ»الجزيرة»، التي أقامت «الجزيرة» دعوى قضية، وقال إنها أشعلت فيها النيران عند إغلاق مكتبها في القاهرة، وما هي جريمة «محمود» إذن التي يحبس بسببها انفرادياً، وكأنه أبو بكر البغدادي؟!
من الناحية القانونية، فإن هذه التسجيلات بلا قيمة قانونية ليست لأنها فقط اعترافات بالإكراه، ولكن لأنها حرز ينبغي يحفظ ويقدم للجهات القضائية، وعرضها على الرأي العام يفقدها أي قيمة قانونية إن وجدت!
قوة واقتدار
لقد تم اعتماد اعترافات محمود حسين عن فيلم «العساكر» وقوله إن ما فيه مشاهد تمثيلية، على أنه نصر مبين، وهلل لهذه الاعترافات أحمد موسي في برنامجه على قناة «صدى البلد»، وذلك في الوقت الذي كانت فيه السلطة في مصر توجه لمحمود الاتهام بأنه وشقيقيه في مصر سجلا هذه المشاهد من داخل وحدات الجيش قبل أن تتراجع السلطة عن توجيه هذا الاتهام!
لقد كان محمود حسين يعمل في القاهرة، عندما كان مكتبها في القاهرة يعمل بشكل رسمي، وعندما أغلق المكتب «قوة واقتداراً» في عهد العسكر، جاء إلى الدوحة ليعمل في مقرها الرئيسي، بعيداً عن المشهد المصري، فيغطي الانقلاب العسكري في تركيا، والانتخابات في تونس، فما هو المبرر لسجنه بغض النظر عن حبسه انفرادياً أو في جماعة؟!
إذا كان عدم السماح بزيارة محمود حسين، سواء لأسرته أو محاميه، هو لعدم وجود قضية أصلاً، والخشية من تسرب تفاصيل العبث، فقد علمت أن التنكيل به في السجن هو لحمله على اعترافات تدين «الجزيرة»، ومما يضاعف من أزمة محمود النفسية أنه «رجل شهم»، والسؤال ماذا يمكن أن يقول محمود حسين عن «الجزيرة» لم يُقل طوال السنوات العشرين الماضية؟ إن الرسول سمح لمن وقع تحت الإكراه أن يسبه شخصياً، ومحمود ليس مرشحاً لينافس السيسي ليمثل موقفه سحباً من رصيده الشعبي عندما يبدو «في الصورة» مهاجماً لـ»الجزيرة» وفي وضع كاتب التقارير فكل كلام يمكن أن يُقال سيعلم الرأي العام أنه وليد إكراه على الكفر لرجل قلبه مطمئن بالإيمان.
الملاحظ في قضية محمود حسين أن مقدمي البرامج التلفزيونية في مصر لم يشاركوا في جريمة تشويهه، لأنهم يعرفونه، ويعرفون أن التنكيل بإنسان مهنته هي رأس ماله، إنما أمر لن يصدقه الناس، واختصرت الحملة الإعلامية لاغتيال محمود حسين على برنامج أحمد موسى، فما اغتالوه ولكن شبه لهم. لكن أيضاً في المقابل لم يهتم به الإعلامي الغربي، فهو ليس خواجة، ولا يقدم التقارير إلى الخواجات!
تحية لمحمود حسين في محبسه.
صحافي من مصر