يرى الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت أن الأطر التي يقوم عليها المجتمع و التي تحقق الإشباع لجميع الاحتياجات تبقى تحكم هذا المجتمع إلى أن تصبح عاجزة عن تحقيق الإشباع , فتتم عملية إبدال لهذه الأطر القديمة بأخرى جديدة تتماشى مع التغيرات التي يعيشها هذا المجتمع , و لكن هذا الإبدال كما يقول كونت من أول شروطه أن يكون إبدالا داخليا من المجتمع نفسه و ليس عملية إدخال خارجي من مستنسخة أو مستجلبة من جهات خارجية .
أ
يعرف عن النظام الاجتماعي الموريتاني قيامه على تراتبية وظيفية تعطي لكل شريحة أدوارها الخاصة و دون منافسة من الشرائح الأخرى و بقي هذا النظام يحكم هذا الفضاء الذي طبعت القبيلة - كغيره من المجتمعات العربية - تاريخه إلى اليوم و بقيت هذه الأخيرة توزع أعضاءها حسب الحاجة لهم لسد فراغات في النظام الاجتماعي فكان ثمة "لعرب" و هم أصحاب السلاح و "الزوايا" و كانت مهمتهم ثقافية دينية و" لحراطين " وكانت مهمتهم فلاحية خدمية ثم "لمعلمين " و كانوا يهتمون بالجانب الحرفي و الصناعي و "إيقاون " وكانوا ذوا الدور الفني... الخ , وهكذا تقسمت الأدوار في باقي المكونات الاجتماعية بما فيها النخبة (المجتمعية ) و العناصر المكونة الأخرى "اللحمة" . استطاع هذا النموذج الاستمرار لوقت طويل بالرغم من الاختلالات التي طبعته سواء في الشكل أو في المضمون .
ب
على الرغم من طول فترة التي صمد فيها هذا النظام الاجتماعي , فانه اظهر حاجته إلى التعديل و هشاشته , إذ إننا لم نتجاوز بعد ستين سنة من الاستقلال حتى نزلت بعض الشرائح المكونة لهذا النظام مطالبة بحقوقها و بدأت الشرائح الأخرى بالنزول تباعا , و هذا ما تسبب فيه بشكل مباشر الانفتاح الذي شهدته البلاد في المجال الاقتصادي بشكل خاص و هو ما اثر كثير في الانتقال السلس و التحول من مركزية القبيلة إلى مركزية الدولة كحالة اجتماعية تتيح فرصا أمام جميع أعضاء النظام الاجتماعي , وتعيد تقسيم الأدوار وظيفيا وبالاعتماد على إبدال أكثر ملاءمة و تناسبا من سابقه الذي تم تجاوزه لاعتبارات أهمها فقدان القبيلة لأهم خصائصها وهو المجال الترابي و سلطة الرعاية العسكرية و السياسية لأعضائها.
ج
يظهر الخلل الكبير الذي أصاب النظام الاجتماعي بعد مرحلة التحول , إن البلاد لم تستطع في عهد الدولة الأمة أن تحافظ لجميع الشرائح على ادوار داخل النسق الوظيفي للمجتمع و هو ما جعلها عرضة لظروف اقتصادية قاسية دفعتها للمطالبة بحقها ليس فقط في التنمية و بل في المشاركة الفاعلة في صنع التنمية كوسيلة للتمكين , و لكن شيئا كهذا كان عصي الحدوث في بلد لا يملك أي قوة إنتاجية , ولم يستطع التحول إلى مجتمع صناعي منتج و إنما انتقل مباشرة إلى مجتمع مورد لكل شيء حتى ابسط الحاجات , فأصبحت غالبية الشرائح الاجتماعية التي بدأت تصل مرحلة الوعي بذاتها , تطالب بشكل علني بحقوق اقتصادية بالدرجة الأولى إلا أن هذه المطالبة تحولت إلى مطالب أخرى سياسية و ثقافية و إثنية و دخلت في مواجهة مباشرة مع النظام السياسي الذي مهد برأيها لهذا التهميش و الإقصاء الذي أنتج جيوشا من العاطلين و الفقراء مع الانعدام الكبير لفرص عمل في وجه الوفرة القادمة من الصين .
د
كان من الطبيعي أن يكون لحراطين أول من ينزل الشارع , نظرا لاعتمادهم على الفلاحة وما يرتبط بها من أنشطة , و الهجرة من الريف إلى مدن لا مصانع فيها وتعيش على الاستيراد, جعلهم عرضة للإقصاء سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي , و ذلك لان الدور الذي كانوا يقومون به بات الآن من نصيب إبدال خارجي هو ماركة (صنع في الصين ) , التي سيطرت على كل شيء و حلت محل إحدى مكونات النسق الاجتماعي , و في المرحلة الموالية نزلت شريحة لمعلمين بعد ما تحول التهديد إلى مصدر رزقهم ( الصناعات التقليدية ) التي باتت السوق الصينية منافسا فيها أيضا خاصة بسبب الوفرة و البضائع الرخيصة , دفعت هذه الشريحة أيضا إلى الشارع من اجل الحفاظ على دورها و مكانتها داخل النسق الاجتماعي كممارسة للصناعة وبعض الفنون الجميلة , و لا يستبعد أن تنزل الشرائع الأخرى تباعا كلما تم تهديد أدوارها التي تتسلمها من قبل النسق الاجتماعي والعكس صحيح , و بالتالي من غير المحتمل في المدى المنظور أن نجد حراكا مشابها لما يحدث في كل من لحراطين و لمعلمين في شريحة كايقاون على اعتبار احتكارها لمهنة الفن (الغناء دون أي منافس ) " ولنا في برنامج النغمة الذهبية اكبر دليل على سيطرة هذه المجموعة على هذا المجال الذي يصنف ملكية خاصة و يحظر اجتماعيا وفقهيا على غير المنحدرين جينالوجيا من هذه الأسر [ وان كانت تجدر الإشارة إلى أن الشرائح الفقيرة بدأت تخلق فنانيها و لذلك في ردة فعل على ارتفاع أجور النخبة من الفنانين المنحدرين من اسر إيقاون التقليدين].
هـ
إن مسالة الإبدال الاجتماعي هي عملية معقدة خاصة في مرحلة ما بعد التحولات الكبيرة كالجفاف و الاستقلال أو ما يسمى بالتحولات الاجتماعية و الانزياحات التاريخية التي تحدث ما يشبه التحول في مجرى التاريخ الاجتماعي , و مع ذلك تبقى مسألة مراعاة جميع مكونات النسق الاجتماعي هي الضمان الوحيد أن لا تخرج بعض أجزاء هذا النسق معترضة عليه , و محتجة على أنها لم تعد تلعب أي دور داخل النسق العام للمجتمع و هو ما يدفعا إلى المواجهة المباشرة , فمن الحكمة أن تكون الدولة ما بعد الاستقلال كانت مدركة لمدى تعقيد عمليات الانتقال في النسق الاجتماعي , و هو ما يجعل منها حريصة على أن تحتفظ جميع المكونات الاجتماعية بمكان لها في الأدوار التي يوزعه المجتمع , فلو دفع بأبناء الشرائح الصناعية والعاملة في الأنساق القديمة إلى المصانع و المشاريع الخدمية لما كانت البلاد عرضة لعديد الحركات المطالبة بالعدالة الاجتماعية و المشتكية من الظلم و التهميش , و التي تقول ببساطة إنها ملت العيش عالة على النسق الاجتماعي و البقاء متطفلة, و الآن تريد أدوارا تقوم بها داخل هذا النسق كما كان الأمر في السابق لا أكثر و لا اقل .
و
من المعروف ان الظاهرة الاجتماعية لها عدو جوانب و أبعاد و لكن المطالب التي رفعها هذه الشرائح من قبيل (العدالة الاجتماعية و الإشراك الاقتصادي و التمكين و حق الحياة الكريمة ... الخ ) كلها مؤشرات تؤكد محورية التحليل الاقتصادي في دراسة النسق الاجتماعي سواء بالنسبة لموريتانيا أو غيرها .
يقول وينستون اتشريشل ( إن أي إنسان في مرحلة الشباب يجب أن يكون شيوعيا إلا إذا كان ليس له قلب و في مرحلة الكهولة يجب أن يصبح رأسماليا إلا إذا كان ليس له عقل )