صبحي حديدي
نالت المترجمة النرويجية أودا ميران فنسنس جائزة «رابطة المكتبات النرويجية»، و»الرابطة النرويجية للكتّاب والمترجمين»، عن ترجمتها لـ«بوّابات أرض العدم»، كتاب الروائية السورية سمر يزبك، الذي كان قد صدر بالعربية سنة 2015. وهذه الجائزة، السنوية، تُمنح لـ»مترجم أنجز ترجمة عالية الكفاءة، لكتاب جديد في الأدب غير القصصي».
وفي أمريكا، بصدد جائزة PEN للترجمة من اللغات غير الأوروبية إلى الإنكليزية، كانت هذه السنة استثنائية لأنّ القائمة القصيرة في الرواية ضمّت كريم جيمس أبو زيد، عن ترجمة رواية ربيع جابر «اعترافات»، وضمت، في الشعر، دونالد نيكولسن ـ سميث، عن ترجمة مختارات شعرية من عبد اللطيف اللعبي. كذلك كانت القائمة الطويلة قد أدرجت آنا زياجكا ستانتون، عن ترجمة رواية هلال شومان «ليمبو بيروت».
وفي لندن، ضمن الاحتفال بالذكرى العاشرة لإطلاق جائزة سيف غباش ـ بانيبال للترجمة، ألقى الروائي والأكاديمي الفلسطيني أنطون شماس محاضرة في المكتبة البريطانية تناول فيها الروابط بين المعارف العربية وأدب الغرب وفنّه. بعض أسئلة شماس دار، مثلاً، حول مدى تأثير بصريات ابن الهيثم، الرياضي الذي عاش خلال القرن الحادي عشر، في أعمال فنّانين من أمثال فيلازكيز، بيكاسو، أو وليام فوكنر.
هذه محض وقائع ثلاث، في سلسلة متعاقبة من تطورات المشهد الراهن لترجمة الآداب العربية إلى اللغة الإنكليزية، فضلاً، بالطبع، عن عشرات اللغات الأخرى الحية، في أربع رياح الأرض. وجدير بالمرء، بذلك، ومشروع له في الواقع، أن يحلم بأطوار أكثر حيوية وثراء، تشهد المزيد من الانكباب على ترجمة النصوص العربية، في مستويات متقدمة أو رفيعة تكفل حسن الانتشار والاستقبال والتكريم. فالترجمة رافقت الوعي البشري، الإيمائي واللفظي والكتابي، على مرّ العصو،؛ لأنّ البشر، بادىء ذي بدء، يتكلمون لغات مختلفة، وحقيقة وجود عشرات الآلاف من اللغات، التي استُخدمت أو يتواصل استخدامها على سطح كوكبنا الصغير، إنما هي تعبير بليغ عن الغنى المذهل، وربما اللغز العميق أيضاً، للذات الإنسانية.
والحال أنّ الاحتفاء بالترجمة، هكذا، لا يُنسي التعبير الإيطالي الشهير: أنّ «المترجم خائن» Traduttore Traditore. ففي الجوهر، لا يوجد نصّ يمكن ترجمته من لغة إلى أخرى من دون مقدار من الخسارة، قد يكون طفيفاً في بعض الأمثلة، والأرجح أنه سيكون فادحاً في الشعر. لهذا رأى الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف أنّ ترجمة الشعر أشبه ببسط سجادة نفيسة، على قفاها، ولم يتردد الشاعر الألماني هاينه في الجزم بأنّ قصائده، المترجمة إلى الفرنسية، انقلبت إلى «ضوء قمر محشوّ بالتبن». وكان المسرحي الإرلندي صمويل بيكيت قد شارك، ضمن فريق رفيع المستوى، في ورشة عمل لترجمة نصّ جيمس جويس «أنّا ليفيا بلورابيل» إلى الفرنسية، فقدّم 35 اقتراحاً لترجمة فقرة لم تتجاوز 14 سطراً، ثمّ أعلن للفريق أنه غير راضٍ عنها، لأنها ليست «جويسية» كما ينبغي!
ولا تأتي سيرة الترجمة إلا وتقودني إلى استذكار غريغوري راباسا (1922 ـ 2016)، أحد كبار مترجمي الأدب في عصرنا، والذي نقل من الإسبانية إلى الإنكليزية عشرات الأعمال الخالدة لروائيين من أمريكا اللاتينية، وبينهم أبرز صانعي تلك الموجة المدهشة التي عُرفت باسم «الواقعية السحرية».
ولم يكن أمراً عابراً، بل لعلـــــه كان نادراً كلّ الندرة، أن يقول روائي مثل غبرييل غارسيا ماركيز أنّ «مئة عام من العزلة» هي في الإنكليزية أجمل منـــــها في الأصل الإسباني، الأمر الذي انطوى على تنازل من المؤلف في ركيزة عظمى تخصّ العمل الأدبي: اللغة الأمّ، أسلوباً وبلاغة ووسيلة وغاية. ولا يحكم على صحّة هذا التقدير الدراماتيكي سوى الخبراء في اللغتين، غير أنّ ما نعرفه من تاريخ العمل يشير إلى أنّ ذيوع صيت ماركيز في أربع رياح الأرض بدأ مع صدور الترجمة الإنكليزية، والأرجح أنها كانت أحد أهمّ الاعتبارات وراء فوزه بجائزة نوبل سنة 1982.
أعود، كذلك، إلى كتاب راباسا، «إذا كانت هذه خيانة: الترجمة ومظّانها»، الأقرب إلى مذكرات شخصية حول ملابسات ـ أي: مصاعب ومشاقّ ولذائذ وأفراح… ـ ترجمة قرابة 40 عملاً أساسياً، لأمثال ميغيل أنخيل أستورياس (صرّح أنه لم يكن يتخيّل كيف كان يمكن لروايته «قبطان الرمال» أن تصل إلى القارئ الغربي، لولا ترجمة راباسّا)، ماريو فارغاس يوسا، خوان غويتيسولو (عُرف عنه، وهو المترجم بدوره، أنه كان يُدخل على أعماله التعديلات التي يرتأي راباسا أنها ضرورية عند الترجمة إلى الإنكليزية)، خوسيه ليزاما ليما (تحفته «الفردوس»، التي تحاكي، ولا تقلّ تعقيداً عن، رواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع»)، أوسمان لينس، لويس رافائيل سانشيز (صاحب العمل البديع «نغمة ماشو كاماشو»، النظير البورتوريكي لرواية جيمس جويس «عوليس»)، خوليو كورتازار، خورخيه أمادو، أنتونيو لوبو أنتونيس، يواكيم ماشادو دو أسيس، أنا تيريزا توريس، خورخيه فرانكو، فضلاً عن ماركيز.
وهكذا، لكي يكون مترجم الأدب العربي بمثابة «بريد الروح الإنسانية»، كما عبّر شاعر روسيا الكبير بوشكين، فإنّ سجادة هذا الأدب، النفيسة في الكثير من نماذجها، يتوجب أن تبدو أشدّ أمانة للوجه، حين تقتضي الضرورة بسطها… على القفا!