ـ1ـ
ما هو الهدف الفعلي للعنف التكفيري بمعناه الرَّاهن؟ هل هو إسقاطُ نظام ما أو إنجاح مشروع سياسيّ أو اجتماعيّ محلّيّ أو إقليميّ أو عالميّ في إطار حدودٍ موجودةٍ أو حدود ٍ يسعى إلى إيجادها؟ أيّ تحليل جدّيّ لمفرداتِ/ممارساتِ المجموعات التّكفيريّة الناشطة راهنياً يؤول إلى أنّها كمجموعات، بغضّ النّظر عن نوايا هذا الفرد أو ذلك داخلها وعن خطابه، هي مجموعاتٌ تتطابقُ فيها الممارسةُ وغايةُ الممارسة واستعراضُ الممارسة. وهذا بالذّات ما تعنيه نجاعة العنف التكفيري في “السّوق” لأنّه جوهريّا أداة سلعيَّة لا تتغيَّى في نهاية المطاف أنْ تؤول إلى شيء آخر سوى كونها أداة سِلَعِيّة بالغة النّجاعة على مستوى المرحلة الحالية من تطوّر السّوق المعوْلَمَة.
طبعاً لا يهمّ كثيراً أنْ تكون للأفراد المكونّين لمثل هذه الجماعات مختلفُ الغايات والأغراض المتضاربة وأن يَصْدروا عن خلفيّات اجتماعيّة بالغة التّباين (أصول اجتماعيّة ثريّة أوفقيرة، محلِّيّين أو نازحين أو مهاجرين، يعانون التّهميش في مدن صناعيّة ثريّة، أو على العكس هم ضحايا فقدان الأفق في مدن فقيرة، إلخ). فما يجمعهم مركزياً، فيما يتجاوز غاياتهم وخلفياتهم الاجتماعية المتناقضة، هو من جهة ذّاتيّتهم العامّة الّتي تتكدّس فيها مفردتا الشّعور بالخيبة والشّعور بالعجز. وهو من جهة ثانية القدرةُ اللاّمحدودة للإرهاب التّكفيريّ على تزويدهم بعدِدٍ فلكي من الأوهام الإشهاريّة عبْر دمْـجـــها السِّلعيّ في الاستلاب التّضخُّميّ.
ـ2ـ
العنف الهمجيّ المباشر، كحقيقة وكاستعراض مُتَمَاهِيَيْن، بَدَا الأكثر نجاعةً في فرضِ شرطته على الذّهن. من خلال ذلك، فإنّ سلطة هذه الشّرطة “الفكريّة” لها قدرة بديهية على تكميم أيّ ميولِ لقراءة الحاضر ولكن أيضا لقراءة الماضي. الماضي كما الحاضر أصبحا مختزَلَيْن في استعراض العنف الإرهابيّ. الخطاب المرافق للأخير لم يعد شيئا آخر غير العنف المطابق لاستعراض العنف ومَسْرَحَتِه القصوى. من هنا نفهم أحد جوانب الطّبيعة الرأسمالية للتّكفير. فهو ينتهي كما في حركات إيديولوجيّة امعينة حديثة وقديمة بتكفير داخليّ يتمتّع فيه التّكفير كسوق، أي كشبكة سلع، ببورصة خاصّة. فمن كانت تُطْلَق عليه في الصّباح مختلف التّبجيلات والألقاب المديحيّة يمكن أن يسقط في الزّوال هدفاً لنفس الصّفات المكفِّرة الّتي كانت تُطلق على غيره (فيصبح مثلا داعية على أبواب جهنّم إلخ).
الإرهاب التّكفيريّ في هذا الأفق جزء من “عقلانيّة” السّوق الرّأسماليّ أو، بعبارة مرادفة، من “مابعد عقلانية” السوق. فما يحدّد الحقّ والباطل في السّوق هو النّجاعة التّسليعيّة. فما هو قابل للتّسليع الآن، حقّ وحقيقة بهذا الاعتبار. وحين تتراجع القيمة السّوقيّة، أي التّسويقيّة أو التّسليعيّة، فإنّه يفقد في اللّحظة التّالية مكانته كحقّ وكحقيقة. يصبح سلعة خطيرة فقدتْ كلّ طلب فانتهى بذلك تاريخ استعمالها.
ـ3ـ
نفهم إذ ذلك كيف يمكن أن نصف العنف التّكفيريّ بالفاشية. فهو ترجمة سِلَعِيّة رأسماليّة لذاتيّة عامّة صِفَتاها الشّعور بالخيبة والعجز. الدّمج الرّأسماليّ لهذه الذّاتيّة العامّة تمّ على مراحل بدءا بظهور الدّولة القُطْرِيّة والأنظمة الأحاديّة الأبويّة منها والشّبه الستانيليّة ووصولا إلى المجموعات المسلّحة الوريثة لتفكّك الدّول القُطْرِيّة. تتُرجم هذه الفاشية التكقيرية إذًا المرحلة الحاليّة من استثمار ورأسمَلَة الخيبة والعجز عبر تسويق وتدوير العنف كسلعة بالغة النّجاعة والإغرائيّة في سوق ما بعد القُطْرِيّة. التّكفيريّة بهذا المعنى تدوير رأسماليّ، حداثيّ وما بعد حداثيّ، لخيبة وعجز تستنفران بنوع من الحنين المزيّف ترسانة من المفرداتِ/الممارساتِ الظَّلاميّة تنسبها إلى ماض مُتَوَهَّم. وهذا بالذّات ما يجعلها فاشية. الفاشية في جوهرها هي هذه القدرة على الاندماج في منطق الرّأسماليّة الأكثر سِلَعِيّة باسم القديم العتيق، عبر استدعاء واستنفار قديم متوهَّم أو مُزَيَّف.
ـ4ـ
الإرهاب التّكفيريّ يصوغ جزءا من مفرداته عَــبْر إدانة أنظمة وأنماط من الحكم والتّسلّط هو وريثها المباشر بلْ هو تطويرٌ لإلغائيّتها المبنيّةِ محوريّا على عنف السّلطة وسلطة العنف. فهو خروج عن مختلف العرى الرّمزيّة والمادّيّة الّتي كانت تقف جزئيّا في وجه عنف السّلطة وسلطة العنف. فهو مثلا تخلّصٌ شبه كلّيّ من مجموع التّبريرات التّقليديّة الّتي ظلَّ تقليدياً يلجأ إلى استنفارها عنف السّلطة. لأنّ العنف التّكفيريّ لا يحتاج إلى منطق خارجيّ. منطقه الذّاتيّ يقتضي أنّ وجوده المحض يتضمّن شموليّا كلّ مبرّر لوجوده. فهو يزوّد نفسَه ويُمَرْئِيها. كلّما بدتْ عشوائيّة العنف عسيرة على المزاوجة مع مفردات تنتمي إلى قاموس القيم والصّفاء الأخلاقيّ، كلّما احتاج العنف العشوائيّ إلى مضاعفة نفسه ومنح ذاته مبرّرا مستقلاّ عن هذه المفردات أو بعبارة أخرى سلب هذه المفردات أيّ دلالة أخرى مستقلّة عن هذا العنف. فالسّلعة في السّوق الرّأسماليّ تتحدّد قيمتها عبر نجاعتها في ثنائيّة العرض والطّلب حصريّا، ولا تتحدّد قيمتها مثلا لأنّها مفيدة أو ذات محتوى أخلاقيّ. فيمكن أن تكون السّلعة الأكثر فتكا وكارثيّة من منظور قيميّ هي الأكثر سِلَعِيّة ورِبحيّة في السّوق. العنف العشوائيّ كالسّلعة يكتسب قيمته الرّبحيّة، ويمنح دلالات مفرداته القيميّة، عبر نجاعته، عبر ارتفاع الطّلب عليه كسلعة، عبر قدرته على التّعولم واختراق الحواجز المتعدّدة الّتي يمكن أن تبطئ الدّورة العولميّة للسّوق. ولأنّه يتماهى مع استعراضه، مع تواصُلِيِّتِه، فإنّه، كنموذجِ حدّي للسِّلعة الاستعراضيّة التّواصليّة، هو الأكثر عولميّة من حيثُ هو الأكثرُ قدرة على اختراق الحدود، على تحويل الحدود إلى أداة من أدواته العولمية.
*