لقد سمعنا في الشهرين الماضين من الرئيس ومن موالاته بأن مناديب العمال قد سيسوا الإضراب، وبأن المعارضة قد ركبت موجة هذا الإضراب لتحقيق مآربها الخاصة. لقد سمعنا كلاما كثيرا في هذا المجال، ولقد قيل لنا بأن الثلاثة آلاف عامل وزيادة التي شاركت في الإضراب لم تكن إلا مجرد دمى تحركها النقابات، وبأن النقابات لم تكن هي بدورها إلا مجرد دمى تحركها بعض الأحزاب المعارضة لتحقيق مآربها الخاصة.
ذلك ما كان يقال لنا خلال الشهرين الماضيين، ولكن الغريب في الأمر أن الحكومة التي كانت تتهم المعارضة بمحاولة تسييس الإضراب، هي الآن من يعمل على تسييس الاتفاق مع العمال، وعلى استثماره لجمع أكبر حشد لاستقبال الرئيس خلال زيارته للولاية، وهي الزيارة التي لم تكن مبرمجة أصلا، وإنما حُدِّد لها ـ وعلى عجل ـ يوم الأربعاء القادم من قبل أن يتم تأجيل هذا الموعد إلى وقت غير معلوم.
فبعد يوم واحد من توقيع الاتفاق مع مناديب العمال المضربين تم الإعلان عن زيارة لم تكن مبرمجة أصلا سيقوم بها الرئيس لمدينة "ازويرات"، فما كان من نائب المدينة إلا أن سارع إلى تنظيم سهرة احتفالية بمناسبة الاتفاق طلب في ختامها من العمال أن يستقبلوا الرئيس بكثافة، وقد استدعى الوالي في اليوم الموالي مناديب العمال وطلب منهم العمل على حشد سكان المدينة لاستقبال الرئيس في زيارته القادمة.
لم يكن رد العمال على نائب المدينة، ولا رد مناديبهم على الوالي بالمطمئن، وربما يكون ذلك بالإضافة إلى بعض التقارير الأمنية هو ما جعل الرئيس يقرر تأجيل زيارته إلى وقت غير معلوم.
لقد كانت آخر زيارة علنية للرئيس لولاية "تيرس الزمور" هي الزيارة التي قام بها في يوم 26 نوفمبر 2014، ولعلكم تتذكرون أن الرئيس حينها كان قد ترك خلفه في العاصمة المئات من الحراس الذين جاؤوا من مدينة "ازويرات" سيرا على الأقدام ليبلغوه شكواهم. لقد رفض الرئيس أن يستقبلهم رغم أنهم كانوا يرفعون صورته، ورغم أنهم ظلوا يرفضون أي تضامن من طرف المعارضة حتى لا يقال بأن مسيرتهم كانت مسيسة. لم يستقبلهم الرئيس ولم يستمع إليهم، وإنما قرر بدلا من ذلك أن يترك لهم العاصمة بعد شهر من اعتصامهم، ويذهب هو إلى "ازويرات" التي كانوا هم قد تركوها منذ شهرين بسبب ظلم رئيس مجلس إدارة الموريتانية للأمن الخصوصي، والذي هو أيضا عمدة المدينة الذي سيتم اختياره فيما بعد لرعاية الاتفاق بين عمال "اسنيم" وإدارتها!! كانت تلك الزيارة صادمة لحراس "ازويرات"، ولكل من تعاطف معهم، ولكنها في المقابل شكلت انتصارا سياسيا لخصم الحراس (عمدة ازويرات) الذي رافق الرئيس في زيارته، والذي سيتم انتخابه بعد ذلك بخمسة أيام رئيسا لرابطة العمد الموريتانيين.
الزيارة الثانية للولاية كانت سرية وقد اختفى الرئيس خلالها في صحاري "تيرس" لعدة أيام، وقد جاءت هذه الزيارة بعد إضراب عمال "اسنيم"، ورغم أن الرئيس كان قد اقترب جغرافيا في هذه الفترة من العمال المضربين إلا أنه مع ذلك لم يتصل بهم، وسيتم في هذه الزيارة الغامضة الحديث أيضا عن العمدة "ولد بايه"، والذي قيل بأنه كان صاحب الرئيس في اختفائه، وقد قيل أيضا بأن منتجعه كان هو محل إقامة الرئيس خلال فترة الاختفاء.
بعد شهر من تلك الزيارة الغامضة التي استمرت لعشرة أيام سيقرر الرئيس أن يذهب في زيارة علنية لعشرة أيام إلى منطقة الحوضين، أي أنه سيكون في هذه الأيام على أبعد مسافة من العمال المضربين، وذلك بعد أن كان ولعشرة أيام سابقة على أقرب مسافة منهم.
لقد ظل الرئيس يرفض أن يزور مدينة "ازويرات" خلال شهري الإضراب، ولكن ما إن تم حل الأزمة حتى قرر زيارة المدينة. أليس في هذا محاولة لتسييس الاتفاق؟ أوَ ليس في اختيار العمدة "ولد بايه" دون غيره لرعاية هذا الاتفاق محاولة لتسييس هذا الاتفاق؟ أوَ لم يقل الرئيس في مؤتمره الصحفي بأن هذه الأزمة هي بين العمال وإدارة الشركة ولا يجوز لأي طرف ثالث أن يتدخل فيها حتى ولو كان والي المدينة؟ أوَ لا يمثل العمدة طرفا ثالثا؟ أوَ لم يكن أولى بالعمدة أن يطلب من الشركة التي يرأسها أن تلتزم ببنود الاتفاق الذي وقعته منذ أشهر مع حراس "ازويرات" برعاية من هيئة الفتوى والمظالم، وذلك من قبل أن يقدم نفسه أو يقدمه الرئيس وسيطا في أزمة "اسنيم"؟ ثم إذا كان لابد من وسيط في هذه الأزمة فلماذا لم يتم اللجوء إلى وسيط الجمهورية الذي لا يذكر اسمه إلا مرة واحدة أو مرتين في العام عندما تكون هناك دعوة لحضور رفع العلم بالقصر الرئاسي؟ ولماذا لم يقدم المجلس الاقتصادي والاجتماعي رأيه للحكومة في إضراب عمال "اسنيم"، ولماذا لم يقدم دراسة عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لهذا الإضراب؟ وأين هي هيئة الفتوى والمظالم؟ ولماذا لا تكون هي الوسيط في هذه الأزمة حتى وإن كانت تجربتها السابقة مع حراس "ازويرات" غير مشجعة؟ وما أهمية هذه المجالس ( وسيط الجمهورية ـ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ـ هيئة الفتوى والمظالم ...) التي تبتلع ميزانيات ضخمة كل عام، ومع ذلك لا تؤدي أي خدمة مقابل تلك الأموال التي تبتلعها كل عام؟
إن على الرئيس أن يعلم بأن فرصة تسييس الاتفاق كان قد ضيعها بسبب انحيازه الصريح لإدارة الشركة، وبسبب محاولاته لإفشال الإضراب، وبسبب قبوله بتجويع مدينة بكاملها لشهرين كاملين، وبسبب إصراره على رفض أي اتفاق مع العمال إلى أن تأكد له بأنه لا مفر من توقيع اتفاق مع العمال، وبأن الشركة والمدينة قد أصبحتا في خطر، بعد أن رفعت النساء الصحون الفارغة، وبعد أن لوح العمال بالعصي، وبأنه إن لم يتم توقيع اتفاق مع العمال وعلى وجه السرعة فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة .
كان بالإمكان أن يتم استثمار هذا الاتفاق لو أنه تم في وقت مبكر من الإضراب، ولو أنه تم من قبل أن يُظهر الرئيس انحيازا صريحا لإدارة الشركة. أما وقد تأخر الاتفاق كثيرا فإن استثماره لم يعد ممكنا، وعلى الرئيس أن يعلم بأن مدينة "ازويرات" لم تعد كما كانت، وبأن زمن الاستقبالات الحاشدة، والتصويت بكثافة قد أصبح جزءا من الماضي، على الأقل، في مدينة "ازويرات".
حفظ الله موريتانيا