طاغية غامبيا و«نوبة الصحو» اليتيمة

أحد, 01/22/2017 - 12:03
مالك التريكي

 

 أخيرا قضي الأمر بالنسبة لطاغية غامبيا يحيى جمّح الذي ظل يثير استغراب الإعلام الغربي بإصراره طيلة الأسابيع الماضية على عدم تسليم السلطة للرئيس المنتخب آدم بارو، رغم إقراره أول الأمر بصحة نتائج الانتخابات. والحق أن الأدعى للاستغراب، بل لعدم التصديق على الإطلاق، ليس كيف تنكّر الطاغية للقرار الشعبي، بل كيف أنه رضي أصلا بتنظيم انتخابات نزيهة مطلع الشهر الماضي، ثم كيف قبل الهزيمة بما بدا في الظاهر كأنه رحابة صدر، وبما أوهم بأنه لا يجد حرجا في أن يريح ويستريح بحلول الموعد الدستوري (19 من هذا الشهر).

فالواقع أن هذا المسلك المعقول، بل المتحضّر، مناف مجاف لطبع الرجل المكنّى في بلاده بـ»مجنون كانيلاي» (مسقط رأسه). لهذا ما لبث أن عاد، بعد أسبوع فقط من تهنئة خصمه بالفوز، إلى ما عهد فيه من غرابة الأطوار وتقلبات المزاج لينكر النتائج بذريعة أنه قد «شابتها أخطاء غير مقبولة». ثم شفع ذلك، الثلاثاء، بفرض حالة الطوارىء، تحديا للمجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية التي طالبته باحترام الشرعية الدستورية وحذرته من مغبة التمادي في العناد، قبل أن تحرك السنغال قواتها نحو الحدود وتبدأ في التدخل العسكري. ولكن يبدو أن يحيى جمّح لم يأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، رغم أنه سبق للسنغال أن تدخلت عسكريا لإحباط انقلاب عسكري في غامبيا عام 1981. كما أنه لم يلق بالا للعروض المغرية التي أتته بضمان الإقامة المرفهة له ولأهله في نيجيريا أو المغرب. 

وليس هذا الاستهتار بالإغراءات والتهديدات ناجما عن عناد مستجدّ من وحي اللحظة، بل إنه نابع أساسا من أوهام يحيى جمّح القديمة وضلالاته البعيدة، حيث من المعروف أنه يعتقد جازم الاعتقاد أنه إنما يحكم بأمر الله، وأن حكمه الاعتباطي التعسفي الاستبدادي مشمول بالعناية الإلهية! ولهذا فقد ذكر أحد المقربين إليه قبل أيام أن الرجل «ينعم بسكينة الإيمان، وهو موقن أنه على حق وأن الله وحده قادر على إنهاء الأزمة». وهذا أقل ما يمكن توقعه من شخص يردد منذ سنين خزعبلات من مثل أنه أوتي القدرة على معالجة كثير من الأدواء المستعصية، بما فيها داء نقص المناعة! 

ذلك هو التفسير العام: أن طاغية غامبيا لم يخرج أبدا من منطقة انعدام الوزن، وأنه لم يكن يصدق أن الدول المجاورة تستطيع إزاحة حاكم مثله محصن بالرعاية الإلهية. فلماذا قبل نتائج الانتخابات أصلا؟ البادي أن طاغية غامبيا قد أصابته «نوبة صحو»، ولكنه سرعان ما عاد إلى غيبوبته العقلية التي هي أبرز سمات شخصيته. و»نوبة الصحو» هي العبارة التي كان يعلّق بها زميلنا القيدوم في راديو «بي بي سي» الفلسطيني غازي البندك، «أبو عيسى»، كلما كسر القذافي قاعدة الهذيان المعتاد فقال، رغما عنه، كلاما يقبله العقل! أما التفسير الآخر غير المعروف، فهو ذلك الذي أتيح لي الاطلاع عليه عام 2011 في داكار عاصمة السنغال، التي ليست غامبيا سوى دويلة منغرزة في قلبها بشكل جغرافي نافر فرضته المناكفات بين سلطات الاستعمار الفرنسي في السنغال والاستعمار البريطاني في غامبيا. فقد روى لي أحد مستشاري جمّح، وهو من متقني العربية إضافة إلى لغات أخرى، أن الرجل شعر بعد اندلاع الثورات الشعبية العربية أن ساعة الرحيل قد أزفت، فعقد العزم على ترك السلطة قبل أن تقتلعه رياح الغضب الشعبي. ذلك أن الغامبيين يكابدون أقصى البؤس وأنهم لا يحلمون، شيبا وشبابا، إلا بالفرار من جنة الاستبداد المسيجة بالخبال.

ولكن «نوبة الصحو» هذه لم تكن ناتجة عن قراءة للتطورات وتدبّر للآيات بقدر ما كانت ناتجة عن مخاوف أحب زوجاته إليه من عاديات الزمان الديمقراطي العجيب وعن رغبتها في هجر البلاد البائسة والعيش في بلد جميل كالمغرب الأقصى مثلا. وقد كان المستشار يرجح تنفيذ هذا السيناريو لأن اتجاه الأحداث في منتصف 2011 كان يشير إلى احتمال نجاح الثورات الشعبية وامتدادها إلى بلدان عربية وإفريقية أخرى. فلماذا لم يرحل؟ القصة أشهر من أن تروى: لقد تمكن تحالف الاستبداد من استعادة زمام المبادرة وإحباط معظم الثورات العربية… فأخذ روع الرجل يهدأ. وما أن هدأ روعه حتى أنكر «تخاريف النساء» وآب إلى ما استحكم في طبعه من غيبوبة العقل وسلطان الغريزة.

الفيديو

تابعونا على الفيس