ملعون أبو التلفزيون! وكما هو معروفٌ فإن الكاهن الذي اخترَعَ الكتابة وقدّمها على ورقة البُردي للفرعون، فإن الفرعون، المتقِّدَ القريحة، أشارَ بأسىً إلى الذهن: قائلاً: "هذا سيقضي على ذلك". الكتابة ستقضي على الذاكرة. وحتّى بدايات القرن العشرين كان الموريتانيون يحفظون الكُتب. ولم تنتِه هذه العملية من أذهان العرب إلا بمطبعة بولاق. وفي القرن التاسع عشر حفِظ ساندرس بيرس "نقد العقل الخالِص" لكانط ظهراً عن غيب!
وكما قضت الكتابة على الذاكرة فإن التلفزيون قضى على الكتابة. والتلفزيون أنتجَ جيلاً سطحياً، فوتغرافيَ الذاكرة، شكلانياً. والحركة الأصولية هي بنت التلفزيون. وقد علِمت ثورات أنها لا تنهَضَ بالتلفزيون. ومن منا ينسى الثورة على اللعين ميلوسوفيتش ومنظر التلفزيونات تُرمى من الأسطح احتجاجاً على غوبلزية النظام. وعندما فُتِح التلفزيون العراقي في نواكشوط في التسعينيات اكتشَفنا أنه ليس فيه غير خمسة أشخاص: صدام حُسين وكاظم الساهر وهارون الرشيد والسندباد وناظم الغزالي.
على أن الحداثة العربية قامت بالتلفزيون كذلك. وليس فقط أنه أبو الأصولية. والتلفزيون هو كالرأسمالية برؤية ماركس: يُنتِجُ حفارَ قبرِه. والواقِع أن رمز التحديث السعودي، الملك فيصل، يمكن أن يُسمّى صريع التلفزيون، كما كان مسلم بن الوليد يُسمّى "صريع الغواني". فالملك فيصل، الذي كان حداثياً له جلسات ومجونيات في باريس أيام كان أميراً، وقد آمن، لما أزاح أخاه الفاشل، سعود، بتدريس المرأة وبتحرير العقول، فشرّع التلفزيون وجعل له داراً. وسرعان ما غضب الأصوليون السعوديون، المنحدِرون من حركة "الإخوان"، ومن الأمراء المحافظين، الذين اعتبروا التلفزيون أداة فسق وحراماً. وفي 1965 قادوا مظاهرة ضدّ التلفزيون واقتحموا مقرّه، ما أدّى إلى هجمة مضادة من الشرطة قُتِلَ فيها قائد الأصوليين، الأمير خالد بن مساعِد بن عبد العزيز. وبعد عشرِ سنوات دخل شقيق القتيل على الملك فيصل، واسمه فيصل كذلك، وأطلَقَ النارَ على رأسِه ثأراً لأخيه؛ وقتله.
ومن المُذهل أنه من رماد الحركة الأصولية في صدر القرن العشرين، التي كانت تُكفِّرُ وتُفسِّقُ التلفزيون وُلِدت حركة جماهيرية أصلانية، درامية الذهن والتفكير، فيلمية التصوّر، وما كان لها أن تقوم بدون التلفزيون. فالتلفزيون، كما يقول الإعجازيون، هو "آية للناظِرين".
فليُعَن التلفزيون يومَ وُلِد ويومَ يموت ويومَ يُبعثُ حيّاً!