الشعراء التقليديين الأنظاميين والاجتراريين ..... ابو العباس ابراهام

اثنين, 01/09/2017 - 23:34

أذكر أنني كنتُ قبل سنوات أقلِّبُ التلفتاز أبحثُ- عبثاً- عن قناة نافِعة إذ عثرت بالتلفزة الوطنية فإذا بشاعر موريتاني عظيم الهامة منتفِج الأوداج زغب الحنك منفوش الشعر يتوقّد ويتوثّب ويزأر. ثم ما لبثّ أن أطلَق صيحة عظيمة، حتى كدت أنجو بنفسي، وهو يقول: "هذه ليست بلاد المليون شاعر". ثمّ سكتَ سكتة طويلة حتى ظَننتُ أنه راحَ فيها. ثم استعاد حياته وألَقَه وأضافَ بصوت خافِت، مشيراً إلى نفسه: "هذه بلاد الشاعر".

لم أخرُج مُعجباً. والآن يتعيّن أن أكون حذراً وأنا أقدِّمُ محاججتي، فقد تلقَيتَ شكوى من شاعِر صديق أنني لا أحبُّ الشعراء. والواقع أن العكس هو الصّحيح. ولكنني كبِرت وأنا على خصام مع نمطٍ مُعيّنٍ من المعرفة البيضانية. ولقد سمَّيتُه بـ"الخطاب الشعري": وهي معرِفة حِفظية، استشهادية بالأمثلة والأبيات، تعتقِد أنها تحسم بها الأفكار، معرِفة وثوقية، افتخارية. الشاعر فيها شاعِر قبيلة أو عصبية ما ينافِحُ بعمى ودونما عقل عنها. أنا على وعي، وفي الحقيقة على فخر، بأن هنالك في البلاد أنماط شعرية تقدّمية جديدة لا تأخذُ ذلك المنحى.

اعتراضاتي على "الخطاب الشعري" عديدة. وعندما أقسو على نفسي أحياناً أقول إنها عقدة فرويدية تعودُ إلى صراعاتي مع الشعراء في الصغر. فلقد أراد أهلي أن ألوك الأشعار وأن أظهر في المناسبات الأهلية مترنماً بالعروض. وبالنسبة لي لم يكن أولئك الشعراء غير مجموعة من القوارض المُستجْدين. في المقابل كُنتُ أفضل قصص سوبرمان والرجل الوطواط ومغامرات شارلوك هولمز وسيرة سيف بن ذي يزن والشاهنامة وملحمة رولاند وعنترة بن شداد. ولقد كبرت وأنا أحاول إثبات أن ثقافة الشاعر ليست شيئاً مقارنة بثقافة القارئ.

اعتراضي الثاني كان شكلياً. فأنا لم أحبّ ذلك النمط من المعرفة القاموسية الذي يقولُ شيئاً بسيطاً ولكن بعبارات كبيرة ومُجلجِلة. لم أحب ذلك الإنشاد المُتحذلِق. ثم إن الثقافة الشعرية قتلت رصانة المعنى. وكلّ عدم الدقة في العربية جاء من الفضفضة اللفظية والتخريب الذي قامَ به الشعراء.

ثمّ إن الشاعِر التقليدي آنذاك كان سريعَ التبهدل. فكان غالباً ما يظهر في غاية السطحية في اليوم الذي يتكلّمُ فيه نثراً. وكانت إعجاباتنا بالشاعر تسقط في اليوم الذي يترجّل فيه من المنبر إلى المجلس. في المجلس كان لا يعقِل شيئاً. ولم يكن المُحتوى، إذا ما تُرجم فِكراً، ليُغري بالترجمة. والموصِلي عرِفهم جيِّداً:

فيا ضيعة الأشعار إذ يقرضونها

وأضيع منها من يرى أنها شِــعر

اعتراضي الثالث كان سياسياً. فالطائعية قامت بالشعر. وولد الطايع كان للشعر ما كانه له البرامكة. وليس هنالك شاعر ممن أقصدهم إلاّ ونبت له شحمٌ على الأكتاف من أعطيات الطايع. ولكن في المقابل كانت بذاءات الطائعية ملفوفة بالشعر. لقد اعتقد أدورنو أن الشعر لم يعد ممكناً بعد أوشتفيتز. ولكن جيجيك ردّ بحذاقة على هذا: كلّ المذابح تحتاج شعراً. كلّ الطغيان يموجُ في الشعر. والشعر هو ما يُغلِّفُ الوحشية ويُصدِرُها في الملحمة، في المجد. رادوفان كاراديتش كان شاعراً. سلوبودان ميلوسوفيتش كان شاعراً. ولكلِّ عصبية شاعر. ولكلِّ قداسة شاعِر. ولكلِّ شمولية شاعِر.

------

ملاحظة: هذا المنشور مخصوص يستهدِفُ فقط الشعراء التقليديين الأنظاميين والاجتراريين. وهو يُقدِّمُ، دون تخصيص، تحية للجيل المُجدِد والمناضل من الشعراء.

الفيديو

تابعونا على الفيس