حتى اللحظة الأخيرة، كان هاشمي رفسنجاني رجل الدقيقة التسعين في إيران، كما يوصف، فوجئ الجميع، معتدلون وإصلاحيون ومحافظون، بوفاته إثر تعرضه لنوبة قلبية.
من السجن إلى الرئاسة، انتقل ابن مزاع الفستق، الشيخ هاشمي رفسنجاني، ثعلب السياسة الإيرانية. وبين هذا وذاك، كان رجل الدين القوي، عصياً على محاولات العزل والتهميش.
فمنذ عهد الشاه الإيراني، محمد رضا بهلوي، الذي أطاحت به الثورة عام 1979م، خاض رفسنجاني الصراع ضد الشاه، منذ عام 1961، أي قبل انتصار الثورة بثمانية عشر عاماً. كان تلميذ الإمام الخميني الراحل الذي كان منفياً في العاصمة الفرنسية باريس، ويده الطولى في الداخل. أدار القوى المؤيدة للخميني، فتعرض للاعتقال لنحو خمس سنوات.
فر الشاه، وانتصر فكر الخميني وساعِده في إيران، هاشمي رفسنجاني، فأكمل إلى جانب الخميني ما كانا قد بدآه، فكان لرفسنجاني الأثر الأكبر في تشكيل مجلس للثورة، وتأسيس جامعة علماء الدين المبارزين، وحزب الجمهورية الإسلامية.
تميز رفسنجاني مقارنة برجال الثورة الآخرين، بذكاء سياسي حاد، مكنه إلى جانب تقربه من الإمام الخميني، من أن يصبح أبرز اللاعبين على الساحة السياسية الإيرانية، كان أول وزير للداخلية في الجمهورية الإسلامية، ساهم في تشكيل الحرس الثوري، وشارك في تدوين أول قانون انتخابي للبلاد، وخاض أول انتخابات أول برلمان، ففاز ونال كرسي رئاسته 1989-1980 أي في أواخر الحرب مع العراق.
ساهم إلى جانب الخميني، في تأسيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، وبقي رئيساً له منذ سبعة وعشرين عاماً، وشارك في الانتخابات الرئاسية الرابعة بعد الثورة وفاز لدورتين متتاليتين 1989- 1997.
كان هاشمي يترأس البرلمان، بينما تخوض البلاد حرباً طاحنة مع العراق، وكان حينها إماماً لصلاة الجمعة في طهران، المؤثرة دينياً وسياسياً، وممثلاً للإمام الخميني في مجلس الدفاع الأعلى، وقائماً بأعمال قائد القوات المسلحة، ولذلك لعب دوراً كبيراً في إقناع الخميني بقبول قرار مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب مع العراق، وحقق مبتغاه.
لكن قبل ذلك، خلال الحرب، أثبت رفسنجاني قدرته على التغيير حتى خارج حدود بلاده، فساعد نفوذه في لبنان، على إطلاق سراح رهائن أجانب كانوا محتجزين على متن طائرة عام 1985 من قبل أعضاء من حزب الله اللبناني، مقابل تزويد بلاده بالسلاح الأمريكي لمواجهة العراق عامي 1985 – 1986، ضمن قضية إيران – غيت.
عند وفاة الخميني، لم يكن اسم الخليفة جاهزاً، فقدم رفسنجاني اسم خامنئي، فبات مرشداً للثورة.
خلال فترته الرئاسية، عمل رفسنجاني على توظيف قدراته الداخلية، في تعزيز دور إيران الإقليمي، وبناء العلاقة مع الغرب، والاعتماد على الاقتصاد الحر، وجذب الاستثمارات الأجنبية، حتى أنه وبعد عشر سنوات من اقتحام السفارة الأمريكية في طهران إبان انتصار الثورة، قال إن تلك الخطوة كانت خطأً، لكنه ووجه بسياسات التيار المحافظ المتشدد الذي رفض الانفتاح على الغرب، فقاد حملة انفتاح على المملكة العربية السعودية، أدت إلى التوقيع على اتفاقية أمنية بين طهران والرياض عام 2001 خلال زيارة تاريخية لولي العهد السعودي نايف بن عبد العزيز، حين كان أميراً للبلاد في ذلك الوقت.
بعد انتهاء فترته الرئاسية، ساهم رفسنجاني إلى حد بعيد في فوز سلفه، محمد خاتمي، لكن ذلك لم يسهم في تعزيز قوة رفسنجاني، وقد بدأت سلطته منذ ذلك الحين بالأفول نتيجة تصاعد قوة التيار المحافظ ومعارضته لسياسات رفسنجاني الإصلاحية.
حاول رفسنجاني العودة إلى كرسي الرئاسة، لكنه وبعد انتهاء ولايتي خاتمي، خسر عام 2005 أمام الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، وبعد انتهاء ولاية نجاد، كرر محاولته مجدداً عام 2013، إلا أنه أقصي عن المشاركة، بعد عدم تأييد صلاحيته من قبل مجلس خبراء صيانة الدستور الذي يهيمن عليه المحافظون، فرأى أن يلعب دوراً في فوز الرئيس الحالي، ابن تياره، المعتدل حسن روحاني، وكان له ما أراد، فبات يعرف بالقائد الروحي لتيار الاعتدال.
خلال رئاسة حسن روحاني لإيران، ترشح رفسنجاني لعضوية مجلس خبراء القيادة، فأثبت تأييد الشارع له، وحصد أعلى نسبة في طهران، ودعم روحاني في توقيع الاتفاق الإيراني.
عايش رفسنجاني تطورات المنطقة العربية، وانتقد دور بلاده الحالي في سوريا، وحين كان يسأل عن العلاقة مع السعودية اليوم، كان يجيب أن المتشددين في كلا البلدين يقفان عائقاً أمام تطبيع العلاقات، ومع ظهور تنظيم داعش، قال رفسنجاني، وهو رجل الدين، القادم من حوزات قم العلمية، إن الاحتفال بمقتل عمر بن الخطاب، وشتم الصحابة، أدى إلى نشوء داعش وتنظيم القاعدة.
بقي رفسنجاني لسنوات، في مرمى نيران المتشددين في إيران، من محاولات الإقصاء إلى العزل، والاتهام بأنه رأس الفتنة، حين لم يعارض احتجاجات عام 2009، إلى اعتقال أبنائه وإيداعهم السجون بتهم الفساد والإخلال بالأمن القومي.
اليوم وقد رحل هاشمي رفسنجاني، رفيق الإمام القديم، وأحد أعمدة الثورة الإيرانية، رجل الدين والسياسة، وصانع الرؤساء، ومؤيد سياسة الانفتاح على العرب والغرب، مؤسس تيار الاعتدال، يرحل معه الصندوق الإيراني الأسود، الذي يحمل أسرار طهران الكثيرة، الداخلية والخارجية، منذ ما قبل الثورة.