قضية "ولد امخيطير" كانت كارثة على المجتمع المدني والمجال العام الموريتاني. ولا توجد قوة ديمقراطية لم تتضرّرْ منها. فمثلها مثل قضية "محرقة الكتُب" في 2012 طمست هذه القضية الحراك الديمقراطي القوي، الرامي إلى إزعاج النظام القائم. وقد ضربت عرضَ الحائط بالحركة المُعارِضَة الكبيرة واستبدلتها بالحراك القداسي. مكان محترفي السياسي قام مراهقون بلا تكوين.
ولم تمرّْ القضية دون إحراجٍ كبير للإسلاميين المُعتدلين. فهؤلاء، برغم نشاطٍ ابتدائي في القضية القداسية، سرعان ما التزموا أمام شركائهم الدوليين بالمبادئ الديمقراطية المُحترِمة للإجراءات القانونية الحداثية وأحجموا على الرغاء في الشوارع ضدّ الأمور الإجرائية. ولم يقوموا بهذه التضحية دون ضرَر كبير بهم وبقضيتِهم. فقد أحجموا عن أكبر قضية دينية عاطفية في تاريخ البلاد وتركوها تفلتُ من أيديهم. ولأول مرّة لم يجرفهم استغلال الدين في السياسة. ولكنهم دفعوا ثمن هذا؛ فسرعان ما ظهر إسلامٌ سياسي بديل لهم، متمثِّلٌ في بلغمة غير واضحة من الصوفيين والسلفيين والإسلام الشعبي و"الفقهاء" البديلون (الفقهاء الذين لا يقدِرون على القراءة وليس لهم تاريخٌ فقهي معلوم) وحتّى من الليبراليين الورِعين الذي تخلّوا عن ليبراليتهم.
الأحزاب التقدمية ماتت. تعيّن عليها أن تنافِق أو أن تُستغفل. ىتعيّن عليها أو تزدرد ألسنتها. أحزاب الأممية الاشتراكية. النواة العلمانية. القوى القومية. أكاديميو وفلاسفة جامعة نواكشوط. كلّ هؤلاء لا يقدرون على الدخول في النقاشات الدائرة ولا توجيهها لأن سمعتهم على المحك. لأن التصويت على المحك. ولأن رقابهم أهمّ من الحريات المدنية.
حتّى النظام تضرّرْ. النظام، الذي ركب موجة القداسة وشجّعها، وأطلق في عموم موريتانيا حركة قداسية انتقاماً من خصم سياسي ولصرف النقاش السياسي في 2013 وأعلن عن "دولة الشريعة"، يدفع الثمن. فهو غير قادِر اليوم على الالتزام بالعقد الديمقراطيوالقانوني الذي يربطه بالعالم. وغير قادر على تطبيق القانون وإلاّ لتعرّضَ لهجمة شعبية تُقوِّضه. لا يُمكنُه حتّى السماح بتأويل تهمة الكفر إلى تهمة الزندقة لاستتابة "المُرتدّْ". وفي تاريخ الشريعة كانت معظم العقوبات من شأن السلطان (ذلك أن الحدود الموسومة في القرآن لا تتعدّى أصابع اليد الواحد؛ والباقي يقدر السلطان بسياسته على تسييره؛ فله في ذلك سلطة تقديرية شبه مطلقة). حتّى هذه البداهة الإسلامية لم تعد قادرة على النهوض.
كلّ شيء تدمّر. حتّى محبة النبي صلّى الله عليه وسلم، التي كان من المفترض أن تُنتِج منظمّات العدل والشفقة والإنفاق على المحرومين والتمدرس المجاني (وكلّها القيم التي عاش الرسول عليه السلام وهو يُؤدِّيها) لم تعد تتمظهر في غير الإعدامية! أيّ محبّةٍ هذه؟!
كلّ الدّول العربية الأكبر شهدت نقاشات قداسية من إبراهيم أدهم وعلي عبد الرازق وعبد الله القصيمي وأمين الخولي حتى فرج فودة ثم نصر حامد أبو زيد، إلى حمزة كاشغري. ولكن وجود طبقة وسطى متعلّمة في هذه الدول منعت تدمير هوامش المناورة للمثقفين أو استقطاب كلّ المجتمع المدني في هذه النقاشات. وبالخصوص منعت أن ينغمِر المثقفون بدهماوية العامة. أما في موريتانيا فقد ماتت النخبة الليبرالية والمثقفة الوليدة، التي كانت هشّة التكوين والخلفية. وسرعان ما نسي الذين قاوموا ديكتاتورية ولد الطايع من كُتّاب وأدباء مبادئهم وتحوّلوا إلى إحراقيين قروسطيين. الشعراء، السينمائيون، المُحامون، الفنانون، المُراسلون، رؤساء التحرير، المُدوّنون. كلّ هذه التراكيب التي تمثِّل القيم الليبرالية والعلمانية افتراضاً سرعان ما نست نفسها والمبادئ المكوِّنة لها وتحوّلت إلى هلام لاهوري.
ماتت الحركة الفكرية في هذا البلد لأنها لم تقم أصلاً. وكانت مستنِدة على بعض الشعر التافه فانزلقت. ماتت لأنه لا توجد مكتبات عامة. لأنه لا يوجد نقاش عام. لأنه لا توجد تآليف. لأنه لا توجد حوارات ولا نقاشات. وما يوجد، حتّى في النقاشات الافتراضية، هو شرطة آداب تتجوّل لتفرض ما يُقال وما لايُقال.
لقد دمّر ولد امخيطير عالماً بأكمله. ألا يُقال إنه ملعون؟