مسألة في العلمنة/الدّيانة .... د. أبو العباس ابراهام

أربعاء, 12/21/2016 - 15:17

بالأمس تمّ قمعُ تظاهرة قداسية (سيتبيّن معنى هذه الصفة من الطرح) بنواكشوط. الآن هنالك موقفان تجاه هذه القضية. الأول عِلماني: وهو أن هذا القمع نكثٌ بحريّة التعبير. الثاني أصولي: وهو أن هذا القمع تعدٍّ على حُرمات الله. الموقف العلماني يُشكِّك في مبدئية الناكثين. الموقِف الدِّيني يُشكِّكُ في إيمان الناكثين. الموقِف العِلماني يُساوي بين قمع تظاهرة النصرة مع قمع تظاهرة المطالبين بحقوق الفئران، إذ أن محلّ الشاهد هو النكث بحرية التعبير، وهو حقُّ ديمقراطي وجمهوري مكفول دستورياً. ولذا تدخلُ الحريات الدينية في الحريات التعبيرية. الموقف الدِّيني يُعلي من التظاهرة النصراوية على أي حقّ تعبيري ويرفعها من مقام الرفاهية في الرأي إلى مقام الواجب أو العبادة (وبالتأكيد فرض الكفاية). فالحريات الدينية أعلى من الحريات التعبيرية؛ بل هي الوحيدة التي يُحدِّدُها.

لا تتحدّد مباشرة التداعيات القانونية لهذا. الموقِفان يتفِقان على أن القمع خطأ وأنه يستحقُّ العقاب. ولكن فيما يتعلَّقُ الموقِف العِلماني بمحاسبة مهنية؛ فإن الموقف الدِّيني يتعلّق بمحاسبة إيمانية أيضاً. الموقِف العلماني مضبوطٌ سلفاً في مدونة عِقابية معروفة سلفاً. الموقِف الديني ليس مضبوطاً بعد في حدٍّ وعُقوبة مرسومة؛ وبالتالي فالوضع يتعلّق بالتعزير وبالسياسة. والتعزيز هو عقوبة ارتجالية تراعي خصوصية اللحظة ويُحدِّدُها السلطان (الحاكم أو القاضي) بسلطتِه التقديرية، بِمشاورة العلماء والقضاة.

ثمة آلاف النسخ من الموقف العلماني والدِّيني. ولكن لنأخذ مثالين نمطيَين. الموقِف العِلماني هو موقِف وضعي: يعتقِدُ أن العقلنة، والقوانين المكتوبة (وإن كانت تُجدّد وتُحوّرُ دورياً في البرلمان) قادِرة على صياغة عقد اجتماعي مُقدّس؛ وأنه لن يأتيّ اليوم الذي تُعلّقُ فيه بحالة طوارئ أو باستثناء (لنفكِّر في ما يقوله أغامبن، خلافاً لهذا، من أن الاستثناء هو شرط القانون وأنه أيضاً مستمِر). أما الموقِف الدِّيني فهو موقِف كيركغوري (كيركغاردي، بنطق آخر). كيركغور يقول: لا يكفي أن الدين في المؤسّسات (التعميد، والتمدرس واللغة الدينية والمساجد) وإنما يجبُ أن يُعاش الدِّين خارِج المؤسّسات، خارِج القانون؛ وإلاّ لجمد. ولذا فإن إعلاء النكث بحقّ التظاهرة القداسة على أي تظاهرة أخرى، وجعلها حقاً دينياً، وليس فقط مجرّد حقٍّ تعبيري، هو شرط تحقّق الدين. وإلاّ فإن الدِّين يُصبِحُ قانوناً، وبالتالي اعتياداً. ولابدّ للدين من أن يُدمِّرَ العرف القانوني ولا يعيش في كنفه وإلاّ لا يُصبِح ديناً. فالدِّينُ هو دين السلام وهو دين الاعتيادية؛ ولكن لكي يكون عادياً عليه ألاّ يكون عادياً.

"هذان خصمان اختصموا". فُتِحت الجلسة.

الفيديو

تابعونا على الفيس