التحدِّي المطروح للعربية هو أن تقدِرَ على استيعاب المفاهيم المُنتِجة غيرياً وأن تستلهِمها في جمالِها التاريخي؛ وأن تُعيدَ جدولة وتنظيم فخامتِها اللفظية وتضبطها لتتماشى مع معطياتٍ جديدة. وشخصياً أؤمنُ أن هذه مسؤولية فردية، كما نخبوية. وأحرصُ يومياً على جعل العربية حواراً بين المفاهيم الأجنبية وبين القالب الإبداعي التاريخي للفُصحى. وأعتقِدُ ان هذا نجح مرتَينِ في تاريخ العربية، من خلال نهضتَين: الاولى كانت في ثورة الورق في العصر العباسي؛ والثانية كانت عصر النهضة العربية الحديثة. في كلِّ هذَين نجح الناطِقون والكاتبون بالعربية في استلهام خصوبة لغتهم وتوسيعها لتشمل العالم الفكري من حولهم. إن الفصحى تحتاج اليوم مسألتين: قراءة تاريخها؛ وقراءة الآخر. بالتزامن؛ وليس بالترجيح. إن الفصحى، كالمقاتل التركي الذي تحدّث عنه الجاحظ، تحتاج أربع عيون: إثنتانِ من الخلف وإثنتان من الأمام.
ومشكلة مُصلِحي العربية اليوم أنهم إما أداتيون بلا تفكير أو قوميون بلا تفعيل أو منابريون بلا عقل أو أصوليون بلا حِوار أو شعاراتيون بلا ممارسة أو، كما في نموذجنا الموريتاني، نحويون بلا فِكر. أيضاً تحتاج العربية إلى استدخال الجهود المترجمة في لغة ذائعة وعامة، وإلاّ بقيّت خارِج التاريخ. والمشكلة أن هذه الإذاعة والإشاعة هي مسؤولية الإذاعات والقنوات، التي من غير الخفي أنها جزءٌ من تتفيه وتضحيل الفُصحى اليوم.
ومن أزمة الفُصحى اليوم أيضاً أن السلطان، وأجهزته، يستخدِمُها في العاطفة، ويستخدِمُ غيرها في العقل. وما زالت الفصحى رهينة السلطان. مثلاً أكبر قناة عربية، وإن كانت عربيتُها أحسن من غيرها (وذلك من الإرث التاريخي لإذاعة لندن)، تستخدِم القناة العربية في العاطفة والقناة الإنجليزية في الرصانة. وفي السعودية يُرسل طلبة العلوم إلى أميركا بينما يدرسُ طلبة العلوم الدينية والبلاغية الطُرَرَ الوهابية والبازية. وفي موريتانيا ما زال التحليل والكتابة الأكاديمية يقوم بالفرنسية؛ أما الفصحى فهي لغة الصهيل العام والتكفير والتفسيق والحَجر ومنع اللغة من التحرّر من القوالب العتيقة. وهنا الصحافة الفرنسية أنفع وأعقل، وبالتالي أكثر تأثيراً، وإن كانت أقلّ عدداً من الصحافة العربية. لقد جُعلت العربية كمية؛ وجُعِل غيرها كيفياً. ولقد كُدِّس الحدس والشعور والعاطفة في الفصحى وألقيَ لغير الفصحى بالعقل والتجريد والتكميم. جُعِلت العربية لغة المنبر وجُعل غيرها لغة الإدارة والفلسفة.
ما تحتاجه العربية هو ثورة معرفية جديدة. ثورة من أسفل. ثورة قرائية وحِوارية. ومن نافِل القول إن المنطوق والمكتوب بها اليوم ليس مُشجِّعاً.