لم يكن التحول الديمقراطي في الدول الفاشلة بتلك السلاسة التي نراها في دول كسويسرا و هولندا و إلى حد ما ألمانيا , و بنوع من التحفظ الديمقراطية ذات الزوائد (الديمقراطية الأمريكية ). فالدول المنصفة في مظلة العالم الثالث على ما لهذا المسمى من تحفظ و ما يحمله من دلالات ظلت دائما تعيش عملية دمقرطة صورية استدرارية الهدف منها الحصول على المعونات و لم تخرج يوما من (التنظير بشكل عالمي و التصرف بطريقة محلية ), إلا أن المراحل التي حددت التحولات السياسية الكبيرة كانت بطريقة ما ترسم بنوع من القوة العنيفة التي تغرق الوضع القائم أو تتصرف على أساس انه تنقذه من الغرق , وعندما تجد سبيلها إلى المنصة السياسية تكون أكثر تخبطا من سابقها نظرا للارتباك الدبلوماسي و المطالب الشعبية التي تطبعها العجلة و العشوائية و سرعة العدوى .
ولكن الحركة الانقلابية في تركيا (تاريخ الانقلاب ) أظهرت خللا كبيرا في مدى فعالية مرحلة ما بعد الانقلاب وسرعة إنتاجها فكانت المحاولة التركية تقوم على نوع من الخطوط المتوازية في مختلف المجالات حيث وضعت الجهة الانقلابية و حتى قبل عملية الانقلاب في الحسبان الفراغ الذي يشكل الانقلاب بالنسبة للدول وهو ما دفعها إلى تأسيس (كيان موازي للدولة ) بكل ما في الكلمة من معنى ( مع التحفظ على الراوية التركية الرسمية للانقلاب ) , أو ما يمكن تسميته بالمنصة الجديدة التي يعتمد عليها الانقلابيون بعد عملية إغراق منصة أردغان .
هذا المستوى من التنظيم يبرز غياب ثقافة البناء و التنظيم في انقلابات المنطقة الآفروعربية حيث تغرق المنصة بمن تحمل لنجد أن الانقلاب بعد فترة وجيرة من عمره بدأ يستجدي الداعمين من خلال تنازلات تصف في إطار الخرق الأمني على المستوى الوطني (بل ويتنافى مع مبدأ الدولة الوطنية ) , ففي الغالب يسير الانقلاب في الدول الفاشلة تنمويا إلى أن يكون فرصة للدول الصناعية من اجل التكالب على هذه الدول وتوفير الدعم المادي و المعنوي للسلطات الجديدة بهدف الحصول على صفقات المواد الأولية و الاستثمارات الكبيرة في هذه الدول بضرائب شبه معدومة و هو ما يعيد إنتاج نفس الوضع السابق لتتحرك ماكينة صناعة انقلاب دون توفير آليات تجنب فشل الانقلاب الحقيقي بعد النجاح المعنوي بإسقاط الحكومة و التفنن في تسميتها أعضائها إما بالمخلوع أو الفاسد أو الهارب و صناعة قضايا اختلاس وفساد لشغل الرأي العام عن العجز الذي تعاني نته السلطات الجديدة (بمعنى آخر تدخل البلاد حلقة مفرغة تدور حول ذاتها ) .
تبد الحدود بسيطة بين نظريتي إغراق المنصة و غرق المنصة ولكن الأولى على الأقل تخلق انقلابا عقلانيا قادرا على إدارة عدة مستويات من مؤسسات الدولة خاصة على مستوى المؤسسات المحورية في الدول (كالتعليم و الأمن و الدبلوماسية و الحريات و الاقتصاد العلاقات الإقليمية ...) و هو ما ينتج انقلابات يمكن تسميتها بالمباركة أو الفعالة إلى حد ما أو القادرة على الحفاظ على مسير الدولة و تجنب الشلل التام . في حين تضع نظرية غرق المنصة الانقلاب حتى بعد عملية "التغلب" في مهب الريح و الفشل في إدارة الشأن على المستويين الداخلي و الخارجي نظرا لعدم توفير أجهزة دولاتية موازية توفر الدعم لهذه السلطات الوليدة للاستمرار , فإذا نظرنا إلى الانقلابات في إفريقيا و التي غالبا ما تحمل اسم الحركة التصحيحية نجد أنها تتنازل عن طموحاتها و أهدافها على وطنيتها و قيمتها للبلاد في مقابل الحصول على الدعم الخارجي و تسيير ملفات الاقتصاد التي أصبحت تدار بشكل رسمي من المؤسسات المانحة (الممول الأول للانقلابات و الداعم لها ) حسب ما أثبتت تجارب دول كجنوب السودان و موريتانيا و دول افريقية عديدة .
إن المسالة خاصة في زمن بات يوصف ب(عصر الديمقراطيات) تجاوزا لعصر الديمقراطية الواحدة (الغربية) , فان صياغة تهذيب للتحولات السياسية في العالم الفاشل تنمويا , بات ضرورة مؤكدة خاصة مع تسارع الطموحات الساعية لبلوغ التنمية الاجتماعية الفاعلة و التي من نتائجها الربيع العربي , و الحركة المتواصلة للانقلابات في إفريقيا , و عمليات التصحيح المربكة التي ظهرت في أمريكا الجنوبية خاصة في الدول اليسارية الوطنوية كالبرازيل و فنزويلا البوليفارية , التي باتت تشهد انقلابات ناعمة جدا و سلسلة و لكنها لا تختلف عن الانقلابات الإفريقية-العربية (على عنفها ) , لان جميعها تفقد المنصة و القاعدة التي تدير منها شؤون البلاد بعد الإطاحة بالرئيس وهو يشير إلى حتمية غرق هذه الأنظمة الجديدة مهما كان نوع الانقلاب.