مثلت القبيلة في المجتمع الموريتاني وغيره على مر العصور المنظم و الضابط العام للعلاقات داخل هذا الكيان الاجتماعي , و تمثلت مهمتها في توفير الحاضنة الاجتماعية و المالية و الأمنية لأفرادها . و كانت المتحكم في كل صنوف المخاطر و الخير التي يتعرض لها الفرد داخلها . و مع بداية ممارسة سلطة الدولة في موريتانيا خاصة بعد الانقلاب على الرئيس المختار ولد داداه بدأت الدولة تسعى إلى تثبيت سلطها , و هو ما قزم نوعا ما من دور القبيلة خاصة بعد فقدانها السيطرة على الأرض و تدخل الدولة في مجال الرعاية "جفاف السبعينات" و تحرك المجتمع إلى المدن "مجال سيطرة الدولة على الفضاء و المجال الترابي و الإداري "القضاء و الأمن و الدفاع"".
هذه المعطيات مع أخرى أبرزها عامل الانتخابات و الوظائف دفعت إلى تشكيل تجمعات تتميز بالمنفعة المتوحشة و الأنانية و الآنية , و اختفت فيها تماما ملامح القبيلة كما عرفت في المجال العربي "العصبية الجينالوجية و المجال الترابي و الحل و العقد... " .
و اخذ هذا الكيان الجديد المتميز بالكثير من الديناميكية في التغلغل داخل مفاصل الدولة و مؤسساتها مشكلا حزاما داخليا بين المؤسسات و المواطنين , و مؤسسا لنفسه علاقات تقوم على مبدأ الرعية مع مجموعة من الناس ,من خلال شبكة من الوساطات و علاقات المعرفة مثلت ما يشبه دولة الظل وقبيلة المصالح , متجاوزا بذلك أي شكل مؤسسي للدولة و أي نوع من العلاقة المباشرة بين الدولة ومن المواطنين . مبقيا الأخيرة كيانا مفصولا بشكل تام عن دورها و مهمتها المتمثلة في إتاحة تكافئ الفرص بين المواطنين من خلال حكم القانون , وبالتالي خلق الولاء للدولة في نفوس الشعب .
هذا النمط من إعادة إنتاج دور القبيلة جعل الدولة تفشل في أن تكون مطلبا مجتمعيا وظلت حاجة نخبوية . خاصة إذا علمنا أن النخبة محليا رأس بلا أكسجين ومبتورة بشكل تام عن العامة لأسباب ثقافية و اجتماعية بالدرجة الأولى , وكون "الأنتليجانسيا العالمة" تمارَس عليها نخبوية دينية تحجم من دورها بشكل كبير و تعاملها كرعية و إن مثقفة .
إن الرؤية أو القراءة الأولية لجسم الدولة الموريتانية تبدي نوعا من رفض الشعب للدولة و مخالفته لها . إلا أن حقيقة الأمر تقول إن هذا الشعب لم يعرف يوما الدولة و بالتالي هو عاجز عن تصور علاقته بها و ويمكن قياس جهل المواطن للدولة من خلال ردود فعله, فهي جسم مفصول تماما عن " الرعايا المواطنين" [يعطي ولا يحتاج و تملك و لا تفقر و تقرب منها وتقصي ]. دونما أدنى تصور أن الحديث عن الدولة هو ببساطة النظر إلى "إقليم و شعب و سلطة سياسية " فالدولة في موريتانيا هي دولة "الإقليم والسلطة السياسية" و إذا لم نستطع إضافة الضلع الثالث الذي هو الأهم في عصر دولة المواطنة فان الخلل البنيوي في تصور الدولة و كيفية ممارستها لأدوارها مداها كمؤسسة داخل المجتمع و نظمه العصرية والتقليدية مستمر إلى يعي المواطن حاجته إلى الدولة "تصبح الدولة مطلبا مجتمعيا" و تعي الدولة مدى تغول القبيلة داخل مجال سيطرة الدولة نفسها .