يرى بعض السوسيولوجيين أن المجتمع ينتج شكل وجوده السياسي بتوسط الثقافة، وأنه حين ينتج شكل وجوده السياسي بإنتاج الدولة يكون قد أنتج مشروع وحدته التناقضية بالمعنى الإيجابي للكلمة بين : الفردية والاجتماعية ، بين سائر الكيانات الجزئية كالعرق والقبيلة والطائفة والفئة والجهة وبين الدولة التي هي عبارة عن كلية اجتماعية تتجاوز انتماءات الأفراد وخلفياتهم الاجتماعية والفكرية والأيديولوجية . لكن الثقافة في موريتانيا لم تستطع حتى الآن إنتاج تلك الوحدة التناقضية بين الخاص والعام ، بين الفردية والاجتماعية ، نظرا لأن الدولة محفوفة بكيانات جزئية تقلل بشكل مستمر من فاعليتها ومن أدائها لدورها على نحو كامل. المشكلة هي أن الثقافة عندنا تلعب على نحو ما دور "العميل المزدوج" للمجتمع والسلطة التي تمثل الدولة في ذهن الكثيرين: فهي تحارب المجتمع باسم الدولة على اعتبار أن الأمر يتعلق بمبادئ مقدسة : - تعزيز آليات العنف المشروع (سلطة الدولة) - تحقيق الديمقراطية المساواتية - الدفاع عن العلاقات الأفقية و المساواة أمام القانون وتحارب الدولة باسم المجتمع : - توظيف البنيات الاجتماعية التقليدية (القبيلة ، الفئة ، الطائفة) كوسيلة للترقي والحصول على منافع شخصية ويتساوى في ذلك أصحاب الأرستقراطيات القبلية وأصحاب النزعات الفئوية. ومع ذلك لا بد من البحث عن مسوغات تقلل من عبء المسؤولية الملقاة على عاتق الثقافة والنخبة المثقفة والبحث عن العوامل التي أضعفت الدولة في الماضي ولا يزال البعض منها يضعفها حتى الآن . وستتضمن تلك اللائحة لا محالة دور النخبة السياسية والفكرية. الحقيقة أن الدولة نشأت لدينا في سياق صعب في ظل تضافر العديد من العوامل الطبيعية والاجتماعية والسياسية والتربوية من أبرزها : الظروف الطبيعية والاقتصادية البداوة وعدم الاستقرار تأثير البنيات التقليدية العوامل السياسية والأيديولوجية العوامل التربوية * الظروف الاقتصادية : ونشير بها إلى الجفاف وندرة الموارد في دولة شاءت الإرادة الإلهية أن تكون ضمن النطاق الصحراوي القاحل المعروف بندرة الموارد . ولا يزال الجفاف والتصحر وزحف الرمال وندرة المياه تشكل تحديا لمنطقة الساحل بأسرها حتى الآن. * البداوة وعدم الاستقرار : الحضارة تتعارض من التنقل وعدم الاستقرار وربما يعزى إلى هذا العامل عدم قيام دول بالمعنى الصحيح ضمن الحدود الجغرافية للبلد . هذه العقلية البدوية يبدو أنها لا تزال تسيطر حتى الآن على العقول بطريقة لا واعية وتجعلها تتصرف في بعض الأحيان بمعزل عن سلطة الإكراه القانونية التي تمثلها الدولة ذلك هو ما يظهر في علاقة المواطن بالفضاء العمومي الذي يحكمه القانون في كل الدول والذي لا يمكن استخدامه بأي طريقة بدون إذن شرعي لأنه مجال مشترك بين الجميع أي بين الذوات التعاقدية التي خولت الدولة من خلال عقد الإذعان بتسييره وفقا للمصلحة العامة كما أن انتهاكه هو أيضا انتهاك لحرية الأشخاص واعتداء على حقوقهم . هذه العقلية البدوية المتحررة من كل الضوابط هي التي سمحت باستمرار الجدل الدائر حاليا بخصوص فتح المحاظر والمدارس القرآنية بطريقة فوضوية وهو أمر يتعارض مع مفهوم الدولة ذات السيادة ولا يمكن أن يحدث في أي دولة من دول العالم . * تأثير البنيات التقليدية والبنى الاجتماعية السابقة على الدولة مثل القبيلة والجهة والفئة والعرق والطائفة.. والحقيقة أن القبيلة هي عبارة عن نظام اجتماعي تقليدي لا يزال موجودا في عدد من بلدان الجوار الإقليمي وفي مناطق مختلفة من وآسيا وإفريقيا والعالم العربي. يتميز النظام الاجتماعي القائم على القبيلة بصفة عامة بوجود نوع من العلاقات العمودية والتواصل الهرمي ولا يقوم بالطبع على العلاقات الأفقية والمساواة أمام القانون وهو الطابع المميز للعلاقات بين الأفراد في الدولة المعاصرة مما يعني أن النظام المدني للدولة يلغي ويتجاوز بصفة تلقائية النظام الاجتماعي التقليدي للقبيلة وسائر التنظيمات الاجتماعية السائدة في مرحلة ما قبل الدولة. ينضاف إلى تلك السمة العامة سمة أخرى خاصة بالنظام الاجتماعي القبلي في موريتانيا وهي أنه كان قائما على ما يسميه البعض بـ "نظام الطبقات المغلق" ويقضي نظام الطبقات المغلق ونمط تقسيم العمل البدائي الذي يسوده أن تقوم كل طبقة من الطبقات ببسط نفوذها على مجال معين من الإنتاج المادي والرمزي وتستحوذ عليه فيصبح ملكها لها بالوراثة يتوارثه أفرادها جيلا عن جيل يتساوى في ذلك الصالح منها والطالح والفاشل منها فشلا ذريعا والناجح ولا يخفى ما تتضمنه هذه المسألة من خنق للإبداع وقتل للمواهب : النجار لا يلد إلا نجارا والحداد لا يلد إلا حدادا والمطرب لا يلد إلا مطربا والفلاح لا يلد إلا مثله والفقيه لا يلد .. والعالم لا يلد ..إلخ. هذه الفكرة مأساوية في جميع جوانب الإنتاج المادي والرمزي وغير مقبولة ولا تتماشى مع روح العصر وقوانين التطور. * العوامل السياسية والأيديولوجية : افتقار الدولة الناشئة إلى جيل مؤسس من أبنائها يحمل لواء البناء حرمها منذ البداية من أحد الشروط المهمة لتأسيس الكيان . والحال أن البلد انتقل من مرحلة انعدام الوعي مباشرة إلى مرحلة اغتراب الوعي لأن طلائع النخبة المثقفة التي عادت إلى البلد من الخارج عوضا عن أن تنشغل بتأسيس الكيان الذي لم يكن موجودا قادها التمدد عبر المجال إلى السياحة الأيديولوجية في سياقات أخرى وبقي الكيان الوطني مجرد مشروع أو فكرة تنتظر الإنجاز وتشاغل عنها أصحابها بمشروعات أخرى أقل ما يقال عنها أنها طوباوية غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع. والواقع أن السياحة الأيديولوجية لم تحرم فكرة الكيان الوطني من التحقق فحسب بل ساهمت في اغتراب الوعي الذي بدأت بذرته تتشكل مع قدوم طلائع النخبة المثقفة التي كانت تتابع دراساتها بالخارج. هكذا كان دور التيارات الأيديولوجية التي تشتق الواقع من الفكر دورا سلبيا بالنسبة إلى الدولة الناشئة فهي لا تعترف بها وتسعى إلى تأسيس كيان آخر يتجاوزها : اليساريون يرفضون الدولة القائمة ويعارضونها بدولة اشتراكية أو بدكتاتورية البروليتاريا وينشئون لها صورة وهمية مستوحاة من "الثورة البلشفية" أو الدولة الكليانية. الإسلاميون يرفضون الدولة القائمة ويعارضونها بدولة دينية تحت قاعدة "لا حكم إلا لله" تارة وتحت ولاية الفقيه تارة أخرى وينشئون لها صورة مستوحاة من التاريخ الإسلامي الأول. القوميون يرفضون الدولة القائمة ولا يعترفون بها ولا يحترمونها وينظرون إليها على أنها انحراف تاريخي وشيء محكوم عليه بالزوال عاجلا أم آجلا ويعارضونها بدولة ليست موجودة إلا في الذهن هي دولة الأمة العربية الواحدة. الدولة الناشئة في كل الأحوال كانت ضحية لهذا النمط من الأيديولوجيات الذي دشن بالفعل مرحلة اغتراب الوعي بعد مرحلة غياب الوعي التي كانت سائدة قبل ذلك. * العوامل التربوية : عندما اجتاحت جيوش نابليون ألمانيا بعد معركة إيينا المشهورة صاح الفيلسوف فشته : "بقد خسرنا كل شيء لكن بقيت لنا التربية" لأنه كان على علم بأن التربية قادرة على إعادة تشكيل وترميم الهوية الألمانية . أما نحن فقد خسرنا كل شيء لأننا خسرنا التربية لأن التربية لم تلعب لدينا في كافة الأطوار التأسيسية للدولة الدور الذي كان من المفروض أن تلعبه وهو بناء الضمير الجمعي والوعي السياسي الضروري والتماسك الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية والثقافية في البلد وهو ما أدى إلى تعزيز الشرخ وإلى وجود دولتين وثقافتين لكن لشعب واحد *** أما القول بأن العبودية كانت "ضرورية" في وقت ما فيعني أنها كانت جزء من نظام اجتماعي متكامل سينهار إن لم تكن موجودة مثلما هو الشأن في الحضارات القديمة كلها مثل الحضارة الرومانية كان للعبيد فيها دور كبير في التراث المعماري خاصة ولم يكن الرومان ليتركوا لنا آثارا عظيمة لولا اليد العاملة الكبيرة من العبيد وأسرى الحروب. وعليه فإن العبودية جزء من نظام اجتماعي قديم كانت تؤدي فيه أدوارا محورية وبهذا المعنى تكون العبودية ضرورية لذلك النظام لأنه كان سينهار لو لم تكن موجودة. هذا الأمر لا يعني تبريرا لوجود العبودية في الماضي أو الحاضر ولا الدفاع عنها وإنما هو تقرير لوقائع لم يعد من المقبول وجودها في الوقت الحالي . كما أن القول بأن العبودية كانت ضرورية لوجود الأنظمة الاجتماعية في الماضي لا ينطبق على العبودية في موريتانيا وفي النطاق الصحرواي الذي قامت العديد من الفتاوى عند كبار العلماء بتحريمه نظرا لانعدام أسبابه وهي الكفر وفي هذا الإطار تندرج فتوى العلامة احمد بابا التنمبكتي وغيره. إن الهدف من هذا التوضيح هو إطلاع الرأي العام على جزء مما ذكرته في الندوة التي انعقدت بمركز مبدأ منذ أيام قليلة بعيدا عن التحريف والمزايدة ولأعبر فيه عن احترامي العميق لآراء جميع التيارات الأيديولوجية وإن كنت أختلف معهم هذا الأمر يعرفه خاصتهم ممن تربطني بهم زمالة أو صداقة.