صعود "الإسلام السياسي" في تركيا

سبت, 01/02/2016 - 08:40

يتعذر على من خفيت عنه جذور قصة صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا، إدراك طبيعة الجدل الفلسفي والسياسي الذي ساد في أوساط تيار العمل السياسي الإسلامي في تركيا، بعد إغلاق حزب الفضيلة (آخر الأحزاب الإسلامية تشكلا) بقرار من المحكمة الدستورية سنة 2001.
تعود بدايات ظهور "الإسلام السياسي" كحركة سياسية منظمة في تركيا إلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، بزعامة البروفيسور نجم الدين أربكان، الذي خاض صراعا مريرا مع المؤسسة العسكرية حامية حمى العلمانية في تركيا، والتي ناصبته العداء حتى أخرجته من الحياة السياسية برمتها.
كانت الغلبة في ذلك الصراع المحتدم بين مؤسسات العلمانية الصلبة في تركيا وتيار "الإسلام السياسي" للعلمانية بقيادة المؤسسة العسكرية، الأمر الذي وضع أتباع ذلك التيار أمام تحديات مصيرية، خرج من رحمها حزب "العدالة والتنمية" بقيادة أردوغان برؤية جديدة تحللت فيها من إرث المؤسس أيديولوجيا وسياسيا.

يأتي كتاب "صعود الإسلام السياسي في تركيا" للباحثين الأمريكيين، أنجيل راباسا وإف وستيفن لارابي، ترجمة إبراهم عوض، والصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات، سنة 2015، ليرصد خلفيات وجذور تشكل تلك القصة، وليسلط الضوء على النقلة الأيديولوجية والسياسية التي أحدثها حزب العدالة والتنمية في أوساط التيار، وليدرس ويقيم تجربة الحزب في إدارة السلطة، وكيف سيواجه التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي تعترض سبيله مستقبلا. 

السياسة والدين في تركيا

ما الآثار التي أحدثتها الجمهورية التركية بصبغتها العلمانية الصلبة، التي أقامها كمال مصطفى أتاتورك بعد إلغائه "الخلافة العثمانية" سنة 1924، في طبيعة التدين التركي؟ طبقا للكتاب فإن "الثمانين عاما من عمر الجمهورية العلمانية المتشددة قد حصرت الدين في دائرة الممارسة الشخصية بالنسبة لمعظم الأتراك". 
وأوضح الكتاب أن العلمانية في الجمهورية التركية "لا تعني مجرد فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في معظم المجتمعات الغربية، ذلك أن الدولة الكمالية، اتباعا للممارسة العثمانية وكذلك نموذج اللائكية الفرنسية، كانت تصر على سيطرة مؤسسات الدولة على الدين.. وتعد إدارة الشؤون الدينية هي الأداة الخاصة بتنظيم الدين، وتتبع رئيس الوزراء.. وقد خلفت هذه المنظمة منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية". 
ذلك النمط من سيطرة الدولة على الشأن الديني، وإدارة شؤونه بشكل رسمي، والذي أفضى إلى إقصائه من الحياة العامة، تراجع في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، بعد ظهور "نوع أوضح من التدين على المسرح التركي" اعتبره المؤلفان "ثمرة لتأثيرات عديدة منها ضعف التراث الكمالي، وإعادة اكتشاف الممارسات التقليدية، وإنشاء شبكة واسعة من المدارس الدينية والمؤسسات الخيرية الاجتماعية، وعملية التحول الديمقراطي، وبروز طبقة وسطى متدينة تدينا أوضح".
يقدم الكتاب تحليلا دقيقا وعميقا عن أسباب تراجع الإرث الكمالي كنسق حاكم في إقصاء الدين عن واقع الحياة ومنها السياسة، فيصف المؤلفان "محاولة أتاتورك تحويل تركيا إلى دولة علمانية غربية حديثة بأنها كانت "ثورة فوقية"، لقد كانت مشروعا في الهندسة الاجتماعية قامت به الدولة من أعلى ونفذته نخبة عسكرية – بيروقراطية صغيرة فرضت رؤيتها العلمانية على مجتمع تقليدي رافض".
لكن تلك الإصلاحات في نسقها الكمالي ظلت "مقصورة على المراكز الحضرية، في حين ظل الريف على حاله لم يمس تقريبا، وحتى خمسينيات القرن العشرين ظل معظم الأتراك منعزلين تقليديين على حين كانت المراكز الحضرية غربية علمانية"، "وفي الواقع كانت هناك تركيبتان تتعايشان معا في تناسق غير مريح، "مركز" حضري علماني حديث، و"محيط" ريفي تقليدي"، على حد قول الكتاب. 
كان ذلك المشروع الذي فرضته المؤسسة العسكرية على الشعب التركي فرضا، مستخدمة أدوات "الدولة القوية" لقهر أي معارضة وتخويفها، مشروعا فوقيا، كان الكماليون الجدد يسعون فيه إلى إحداث قطيعة جذرية مع الماضي العثماني.. فألغيت الخلافة بكل رمزيتها ومكانتها.. وحلت الأبجدية اللاتينية.. وتم التنفير من اللباس الوطني.. وعلمنة النظام التعليمي، كما وضعت كل المؤسسات والموارد الدينية تحت سيطرة الدولة...
وتحدث الكتاب عن دور الحزب الديمقراطي، الذي كان يرأسه عدنان مندريس، والذي حاز سنة 1950 أغلبية برلمانية منهيا احتكار حزب الشعب الجمهوري للسلطة، وكان الحزب الديمقراطي "أقل توافقا مع المفهوم الكمالي للدولة، فجذب إليه أقسام المجتمع التي شعرت بالتهميش والظلم جراء سياسة التغريب المعلمنة". 
ولإظهار مخالفته لمفهوم الدولة عند الكماليين، وعد الحزب الديمقراطي "بإنهاء بعض السياسات الوحشية التي أرساها النظام الكمالي، وتخفيف القيود الثقافية التي فرضها الكماليون على الأكراد، وفي الواقع فقد أعاد الحزب الديمقراطي "شرعية الإسلام والقيم الريفية التقليدية".
لم ترق تلك الإصلاحات التي قام بها رئيس الوزراء عدنان مندريس لكثير من الكماليين، واعتبروها منحرفة وخطرة، وقد دفعت هذه السياسات الجيش التركي إلى التدخل عام 1960م، وكان هذا أول الانقلابات العسكرية.
وطبقا لما رصده المؤلفان فإن فترة مندريس أفرزت نتيجتين هامتين: الأولى: أنها وسعت عملية نشر الديمقراطية وفتحت طريق المشاركة السياسية أمام الجماعات الدينية والعرقية التي كانت مهمشة، والثانية: أنها وفرت للجماعات الدينية مساحة سياسية للعودة إلى الظهور والشروع في تنظيم نفسها سياسيا.

ويلفت الكتاب إلى أن القوى الدينية استطاعت في هذا المناخ الأقل قيودا أن تنشئ حزبها الخصوصي المستقل، وهو حزب النظام الوطني، أول حلقة في سلسلة من الأحزاب الدينية التي أُسست تحت قيادة نجم الدين أربكان.

تجربة أربكان وميلاد العدالة والتنمية

كان حزب النظام الوطني الذي تم تأسيسه في يناير 1970، أول الأحزاب السياسية المتعددة التي تزعمها نجم الدين أربكان، ووقف الحزب مع إنشاء نظام اجتماعي واقتصادي قائم على المبادئ الوطنية أو "الإسلامية"، لكنه لم يعمر طويلا، فتم إغلاقه من قبل العسكر في 1971 بذريعة أنه ضد الطبيعة العلمانية للدولة.
ويسلط المؤلفان الضوء على الخلفية التي انطلق منها مؤسسو حزب النظام الوطني والأحزاب التي خلفته من صفوف جماعة الفكر الوطني (ميللي غوروش)، وقد كان قادتها يسعون للعودة إلى القيم والمؤسسات التقليدية. لقد كانوا ينظرون إلى المحاولة الكمالية لاستبدال النموذج الغربي بالدولة والثقافية العثمانية – الإسلامية على أنها خطأ تاريخي ومنشأ لجميع متاعب المجتمع التركي. وكانت غايتهم أن يبنوا "نظاما وطنيا إسلاميا، وأن يضعوا نهاية لعملية التغريب".
مرت تجربة أربكان في صراعه مع مؤسسات الدولة العلمانية، بمحطات قاسية وشديدة، فبعد تأسيسه حزب الخلاص الوطني سنة 1972، تم إغلاقه سنة 1980، وعاد للظهور من جديد سنة 1983 باسم جديد هو "حزب الرفاه"، وتولى رئاسة الوزراء (96-97)، وأغلق الحزب سنة 1998 بانقلاب صامت، ومنع أربكان ورجاله من مزاولة السياسة لمدة خمس سنوات.
كانت إسلامية أربكان واضحة جدا، فهو يعلن بكل وضوح معاداته للدولة الكمالية، ويعمل جادا للتخلص من أفكارها وآثارها، ويظهر عداوته الشديدة للمشروع التغريبي الذي فرض على تركيا، ويعلن عداوته كذلك للغرب، ويظهر انحيازه للأمة الإسلامية وللعالم الإسلامي، ما ألب عليه المؤسسة العسكرية التي حاصرته وأخرجته من الحياة السياسية.
بعد إجبار العسكر أربكان على تقديم استقالته، "بدأ العسكر حملة صريحة ضد الأفكار والأيديولوجية الإسلامية، واتّهمت هي والنزعة الانفصالية الكردية بأنها أحد التهديدات الرئيسية للأمن التركي"، وفي الوقت نفسه أوضح المؤلفان أن توجه العسكر ترك أثرا هاما على توجه الحركة الإسلامية وتطورها. 
اتضح ذلك الأثر كما يشرحه الكتاب في أن الحركة الإسلامية تيقنت "أن المحاولة الصريحة لفرض أجندة إسلامية لا يمكن أن تنجح بل سوف تواجه معارضة قوية من العلمانيين، وبخاصة العسكر، وتوصل كثير من أعضاء الحركة الإسلامية إلى أن السبيل الوحيد لنجاح الإسلاميين هو تجنب المواجهة المباشرة مع العلمانيين، وعدم إظهار الأجندة الإسلامية". 
وعن الجدل الداخلي الذي دار في صفوف الحركة الإسلامية يذكر الكتاب أن هذا الدرس "أثمر نقاشا وتفكيرا داخليا حادا داخل الحركة الإسلامية حول الاستراتيجية والأجندة السياسية التي ينبغي أن تتبناها الحركة في المستقبل، وظهر انشقاق فلسفي وسياسي متزايد بين مجموعتين مختلفتين داخل الحركة: التقليديون المتمركزون حول أربكان ورجله الرئيسي رجائي قطان، ويعارضون أي تغيير جاد في المنهج أو في السياسة، والحداثيون أو الإصلاحيون، وهم مجموعة شابة يقودها رجب طيب أردوغان عمدة إسطنبول وشريكه اللصيق عبد الله غول.
 كان رأي المجموعة الإصلاحية التي تزعمها أردوغان وعبد الله غول، يتمثل في "أن الحزب يحتاج إلى إعادة تفكير في طريقة تناوله لعدد من القضايا الأساسية، وبخاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والصلات مع الغرب، كما اعترض الإصلاحيون على أسلوب قيادة أربكان التسلطي، ودعوا إلى ممارسة قدر أكبر من الديمقراطية داخل الحزب". 
أفضى الجدل الداخلي بعد إغلاق حزب الفضيلة بقرار من المحكمة الدستورية في 2001، إلى انشقاق الحركة رسميا، فأسس التقليديون حزب السعادة بقيادة رجائي قطان ظاهريا بينما كانت القيادة الفعلية لأربكان من وراء الستار، أما الحداثيون فأسسوا حزبا جديدا باسم "العدالة والتنمية" يرأسه أردوغان. 
ما هي الفوارق الجوهرية والأساسية بين الرؤيتين؟ كان التقليديون يسعون لتقويض أركان الدولة العلمانية الكمالية، ويقفون موقفا معاديا للغرب، وينظرون إلى الإسلام باعتباره معاديا للقيم الغربية ولا يتوافق معها، ويعارضون انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
وعلى النقيض من ذلك، أعلن الحداثيون (حزب العدالة والتنمية) احترامهم للجمهورية التركية العلمانية، وانسجامهم مع الغرب وتعاونهم التام معه، وأعلنوا قبولهم بالقيم الغربية كالديمقراطية وحقوق الإنسان، ورغبتهم للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما أطلق عليه المؤلفان (التجميل الأيديولوجي وتبني خطاب سياسي مختلف). 

مسار الحزب واحتمالات المستقبل وتداعياته

صدر الكتاب في طبعته الأصلية باللغة الإنجليزية عام 2008، بعد فوز عبد الله غول برئاسة الجمهورية سنة 2007، وكان قد مضى على تجربة الحزب في الحكومة ما يقارب ست سنوات، وكان تقييم الكتاب لتلك التجربة، يصب في الثناء عليها والإشادة بها، فقد تمكن الحزب من إدارة ملفاته الداخلية والخارجية بنجاح، أما احتمالات المستقبل وتداعياته فتراوحت في أربعة سيناريوهات.
كان السيناريو الأول اتباع حزب العدالة والتنمية اتجاها معتدلا نحو الاتحاد الأوروبي، يشدد فيه الحزب من قبضته على السلطة، وينتهج طريقا معتدلا غير سامح للدوافع الإسلامية في سياسته الداخلية والخارجية بإخراجه عن مساره الأوروبي، ومع تساهله عن التعبير عن النزعة الدينية، إلا إنه لا توجد محاولة لتطبيق الشريعة الإسلامية، ولا لإقامة الدولة الإسلامية.
أما السيناريو الثاني فهو الأسلمة الزاحفة، وهو ما رجح المؤلفان ضعف احتمالية وقوعه لسببين أشارا إليهما في الكتاب، وكان السيناريو الثالث: إغلاق القضاء للحزب، وجاء السيناريو الرابع وهو أشدها قسوة ألا وهو التدخل العسكري.
ومن خلال متابعة مسيرة الحزب بعد سنة 2008 يتضح أن السيناريو الأول الذي توقعه الكتاب هو الذي تحقق بعد أن حافظ حزب التنمية والعدالة على رؤيته المؤسسة باعتباره حزبا ديمقراطيا محافظا، والتي قدم فيها مؤسسوه وأتباعه أنفسهم على أنهم "ديمقراطيون مسلمون"، وهو ما أهله لحفر اسمه في الحياة التركية، بعد الذي حققه من نجاحات اقتصادية هائلة، بعيدا عن الخطاب الأيديولوجي، والتي انعكست بشكل مباشر على مستوى معيشة الإنسان التركي، بصرف النظر عن اتجاهه الفكري.     نقلاعن عربي21 

الفيديو

تابعونا على الفيس