“الحرب جدّ غير عادلة وجدّ قبيحة لدرجة أن كل من يـخوضها يضطرّ أن يحاول خنق صوت ضميره.” ليو تولستوي
ـ1ـ
يدّعي الكاتب الروسي ميخائيل شيشكين بلغة ساخرة أن مشكلة روسيا هي أنها دائما تعمل للوصول إلى هدف محدَّد فتحصد النتيجة المعاكسة. وأنه لذلك حاول قديما بطرس الأكبر إضعاف أوربا في مواجهة روسيا فكانت النتيجة أنه أضعف روسيا في مواجهة أوربا. ولذلك أيضا حاول غورباتشوف إنقاذ الاتحاد السوفيتي فكانت النتيجة أن الاتحاد اختفى من الوجود (م. شيشكين، الشعراء والقياصرة، من بوشكين إلى بوتين: القصة الحزينة للديمقراطية في روسيا، موسكو 2013). ويضيف شيشكين أيضا في نفس السياق الساخر أن هنالك قصة روسية حزينة للثورة موازية أو محايثة لما يراه قصتها الحزينة مع الديمقراطية. وبسببها ” ليس هناك أحد في روسيا يحبّ متاريس الثورة”. لا يبدو أيضا أن روسيا بوتين أحبتْ متاريس الثورة في العالم العربي منذ سقوط بن علي سنة 2011. طبعا ليس ذلك لأن للثورة والديمقراطية أيضا قصة حزينة في العالم العربي. ولكنْ أساسا لأن لروسيا قصة غير سارة مع سقوط أو تَـغيّر الأنظمة في المنطقة.
ـ2ـ
يلخِّص عرضٌ أعدّه سنة ٢٠١٣ فرع مركز كارنجي في موسكو تحت عنوان “روسيا والربيع العربي” تاريخَ روسيا مع العالم العربي إلى ثلاث مراحل: مرحلة روسيا القيصرية أو الامبراطورية الروسية التي لم تكن معنية به. كانت تنظر إليه كجزء طرفي في الامبراطورية العثمانية المنافسة لها (مع استثناءات قليلة مثل مصالح الكنيسة الارثوذكسية في بعض بلدان المشرق الخ). أما المرحلة الثانية فهي المرحلة السوفيتية خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية حين أصبح العالم العربي والعالم الثالث عموما المجالَ الرئيسي لتنافس الاتحاد السوفيتي وحلفائها مع الولايات المتحدة وحلفائها. ولكن هذ الحضور أخذ يتراجع مع بداية تقهقر الاتحاد السوفيتي في السبعينات. أما روسيا الما بعد سوفيتية فقد كانت غارقة في مشاكلها الداخلية. ولم يظهر من جديد الاهتمامُ بالعالم العربي إلا مع وصول بوتين الى السلطة سنة 1999. يرى التقرير أن سياسة روسيا البوتينية بهذا الخصوص هي مزيجٌ من الرغبة في استعادة تركة الاتحاد السوفيتي ومن من اعتبارات تخصّ المصالح الحيوية الروسية في السياق الما بعد سوفيتي. هكذا يحاول التقرير تفسير حرص الكريملين على الاحتفاظ بقاعدة طرطوس في سوريا وتنشيطها كآخر بقايا الحضور العسكري السوفيتي في المنطقة.
ـ3ـ
تُعدّد ورقةُ نشرَتْها في شهر مايو الماضي مؤسسةُ العمل من أجل العلاقات الدولية والحوار الخارجي (بروكسيل/مدريد، 2015) مصالحَ روسيا في البلدان العربية وتوجزُها في أربع. إحداها تفادي ما تراه روسيا محاولة أوربية أمريكية لحرمانها من حلفائها. أما الثانية فـترتبط بالتخوف من وصول حركات طائفية متطرفة إلى السلطة في البلدان العربية لا ينتج عن وصولها فقط تقويض نفوذ روسيا في المنطقة ولكن يكون لها تأثير في المناطق الإسلامية حول روسيا وداخلها. أما الثالثة فتـتعلق باعتماد روسيا إلى حدّ كبير على مداخيلها من البترول وبالتالي تخوفها من كل ما يمكن أن يؤثر في أسعارهما. وهي تنظر وفقا لذلك بحذر إلى الدول العربية المصدِّرة للبترول والغاز ودورها بشكل خاص في الهزات التي يعرفها ويمكن أن يعرفها هذا السوق. أما المصلحة الجيوستراتيجية الرابعة فتتعلق بطموح الكريملين إلى تصدير منتوجاته العسكرية إلى الدول العربية. هذا بالرغم من أن حجم التبادلات التجارية بين الدول العربية وروسيا ظل على الإجمال ضعيفا.
ـ4ـ
يَعتبر تقرير معهد كارنيجي أن بوتين حاول في بداية حكمه أن يقدم روسيا ككيان مختلف في آن عن الغرب وعن العالم الإسلامي، وقادر بالتالي أن يلعب دورَ الوسيط بينهما (منذ 2005 أصبحتْ روسيا التي تضمّ عشرين مليون مسلم عضوا مراقبا في منظمة المؤتمر الإسلامي). ولكن التقرير يعتبر أن أغلب دول العالم الإسلامي لم تُرحّب بهذا الدور الروسي المقترح. وأنّ الدول الغربية ليست لها حاجة الى وساطة روسية في علاقتها مع دول العالم الاسلامي. وكانت روسيا قد شعرتْ بشكل خاص بالخيبة حين عجزتْ كلُّ محاولاتها عن خلق تعبئة كافية دوليا وإقليميا لمنع احتلال العراق، حليفها المورث عن الحقبة السوفيتية. أحسّتْ روسيا حينها حسب التقرير بمرارة كونها لم تستعدْ ما يكفي من القدرات لتكوين قوة موازنة نسبيا للولايات المتحدة خصوصا في مناطق النفوذ السوفيتية السابقة. فتمّ إذاً تدميرُ أحد آخر حلفائها في المنطقة دون أن تستطيع إنقاذه. ولم يبق لها بعده من الحلفاء الموروثين عن الحقبة السوفيتية سوى الأسد والقذافي. ويضيف التقرير أن بوتين شعر بالفشل بشكل خاص في علاقته مع الدول العربية خلال لقاءات القمة بين ٢٠٠٥و٢٠٠٧. وأخفق في التوصل إلى اتفاقيات بشأن عدد من العقود الاقتصادية. كما رفضتْ عدد من الدول العربية مقترحاته بشأن خلق منظومة أمنية إقليمية.
ـ5ـ
بعد ستة أشهر من انطلاق أحداث “الربيع″ لاحظتْ ورقة أعدّها مركز الدراسات الأمنية في زوريخ (يوليو ٢٠١١) أن وصول الثورات الشعبية إلى ليبيا قد جعل روسيا تُظهر شيئا فشيئا تخوفاتها التي كانت نسبيا مضمرة مع سقوطي بن علي ومبارك. فبقدر ما فاجأت الثورات العربية الدول الغربية بقدر ما فاجأت روسيا. ولم يختلف موقفها المعلن في الأشهر الأولى مما حدث في تونس ومصر عن مواقف الدول الغربية. فقد أصيبتْ من ناحية بارتباك شديد أمام هذه الهزات الجيوستراتيجية المفاجئة. ومن ناحية ثانية أرادت مثل الدول الغربية مجاملةَ اندفاع الرأي العام وبالتالي إظهارَ مواقف إيجابية تجاه التغيرات التي عرفتها مصر وتونس. ومن ناحية ثالثة عملتْ على أنْ لا تتمّ هذه التغييرات على حساب ما تراه مصالحها الحيوية. ولكنَّ المعلقين الروس شبه الرسميين لم يكونوا حينها يتسترون على تخوفهم من أن تكون الثورات العربية تمتْ على طريقة ثورات أوربا الشرقية. فالأخيرة في التصور الرسمي الروسي لم تكن إلا انعكاسا ليد خفية غربية.
وفي جميع الأحوال كانت لروسيا في بداية ٢٠١١ ثلاث تخوفات رئيسة. الأول أن يقود الربيع العربي إلى وصول تيارات “ليبرالية” موالية للغرب إلى السلطة. وهو ما يعني بالنسبة لروسيا إمكانية أن يكون الربيع العربي تمهيدا غربيا لدعم عدد من الثورات في العالم بما في ذلك منطقة نفوذ روسيا أو حتى داخل الدولة الروسية. وهو ما يعني بالنسبة لروسيا العودةَ من جديد إلى مربع المطبات التي تلتْ نهاية الحرب الباردة. أما السيناريو الثاني فهو أن يسمح الربيع العربي بوصول ما تراه روسيا حركات دينية طائفية متطرفة، سيكون لها تأثير إقليمي ودولي خطير. أما السيناريو الثالث والذي عبّرتْ عنه روسيا حينها بصراحة أكبر فهو احتمال ان تدْخل المنطقة لسنوات دوامة عنف طائفي تخشى روسيا تمدّده إلى مناطقها الإسلامية (حولها وداخلها، خصوصا في القوقاز الشمالي ومنطقة الفولغا).
ـ5ـ
رغم أن روسيا قد حاولتْ الوقوفَ في وجه محاولات التدخل الدولي في ليبيا فإنها اضطرتْ منذ البداية الى التراجع نسبيا. وحتى حين أرادت التوسط لإيجاد مخرج سياسي في ليبيا في يونيو ٢٠١٢ فقد اكتشفتْ أن الوقت قد أصبح متأخراً جداً. وفضلا عن الخسارة المالية (ضياع الديون وإلغاء عقود “غاز بروم” و”تاتنفت”) فقد أحسّتْ روسيا أن الدول الغربية قد بالغتْ في إذلالها بــ”طردها” عمليا من دولة حليفة، وأنها اكتسبتْ عداوات في ليبيا سيكون من العسير تجاوزها. يجد هنا طبعا إصرارُها ا بكل الوسائل على تفادي تكرار السيناريو الليبي في سوريا بعضَ أسبابه. ولكن تقرير كارنيجي يضيف عنصرا آخر يستحقّ أن نعود له في حديث لاحق. يتعلق الأمر بـمشروعي خطوط الأنابيب (قطر/سوريا/تركيا من جهة وإيران/العراق/سوريا من جهة ثانية) الذين أثارا عددا من التأويلات. حيث يضيف التقرير العبارة اللافتة : “طالما بقيت سوريا غير مستقرة فلا قطر ولا إيران تستطيعان متابعة ما تطمحان إليه من تشييد خطوط أنابيب الغاز عبر سورية. وهو ما يمنح روسيا وقتا إضافيا لتطوير مشاريع غازها”. وهي عبارة قد لا تَصْـدق بشأنها بالضرورة إشارات شيشكين الساخرة التي بدأنا بهذا الحديث.