الاستعمار وأزمة القضاء في تونس عبد الرؤوف العيادي

خميس, 12/25/2025 - 15:28

يُعدّ استقلال القضاء أحد الركائز الأساسية لدولة القانون في المنظومة الليبرالية الحديثة، إذ يُفترض أن يمارس القاضي وظيفته بعيدًا عن أي ضغط سياسي أو إداري، وأن تصدر أحكامه وفق القانون وحده، ضمانًا للعدالة والمساواة بين المواطنين.
غير أن هذا المبدأ، رغم حضوره النظري، ظل في التجربة التونسية عرضة للتقويض، سواء خلال فترة الاستعمار الفرنسي أو في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث لم يتحقق الاستقلال الحقيقي للقضاء، بل استُبدلت الوصاية الأجنبية بوصاية سياسية داخلية.

القضاء في عهد الاستعمار: أداة للهيمنة لا للعدالة
انتهجت فرنسا الاستعمارية سياسة قضائية تخدم مصالحها السياسية والأمنية، فحرصت على إضعاف القضاء المحلي عبر حرمانه من الموارد، وفي الوقت نفسه أنشأت منظومة قضائية موازية تخضع كليًا لإرادتها.
وقد كرّست اتفاقية المرسى (1883) هذا التوجه، حيث نصّت صراحة على منح فرنسا حق الإشراف على الإصلاحات الإدارية والقضائية والمالية في البلاد. وبموجبها جُرِّد الباي من سلطته الفعلية، وأُسندت الصلاحيات الحقيقية إلى الكاتب العام للحكومة الفرنسية.
أصبح القضاء التونسي خاضعًا لنظام "العدالة المقيدة"، إذ لا تُنفّذ الأحكام إلا بعد مصادقة السلطة الاستعمارية، كما فُرضت محاكم فرنسية للنظر في القضايا الكبرى، وخاصة تلك المتعلقة بالسياسة والأمن.
ازدواجية القضاء وانتهاك السيادة
شهدت تونس خلال الاحتلال ازدواجًا قضائيًا خطيرًا:
محاكم أهلية محدودة الصلاحيات.
محاكم فرنسية ذات نفوذ واسع.
محاكم قنصلية للأجانب.
محاكم استثنائية للنظر في القضايا السياسية.
وقد أدى هذا الوضع إلى تقويض السيادة القضائية بالكامل، وتحويل العدالة إلى أداة قمعية بيد المستعمر. بل إن بعض الجرائم الخطيرة التي ارتكبها فرنسيون ضد تونسيين انتهت بأحكام مخففة أو شكلية، ما عزز الشعور بالظلم وانعدام الثقة في القضاء.

شهادة التاريخ: عبد العزيز الثعالبي
وثّق الزعيم الوطني عبد العزيز الثعالبي في كتابه الشهير "تونس الشهيدة" (1920) هذا الواقع المأساوي، واعتبر أن القضاء في ظل الحماية الفرنسية:
"هيكل مريع يسوده الظلم وفقدان الأمن، وهو من أقوى أدوات الاضطراب الاجتماعي".
وأشار إلى غياب التنظيم، وافتقار المحاكم إلى أبسط الضمانات، وخضوعها الكامل لإرادة الكاتب العام الفرنسي، بل إن القاضي لم يكن يملك سوى اقتراح الحكم، في حين يعود القرار النهائي إلى السلطة الاستعمارية.

ما بعد الاستقلال: استمرارية لا قطيعة
رغم حصول تونس على استقلالها الشكلي سنة 1956، فإن المنظومة القضائية لم تشهد قطيعة حقيقية مع الإرث الاستعماري. فقد تبنت الدولة الجديدة نفس البنية القانونية والإدارية، مع تغيير الأشخاص فقط.
واعتبرت النخبة الحاكمة، وعلى رأسها الحبيب بورقيبة، أن القضاء الفرنسي نموذج حداثي يجب الحفاظ عليه، بل وتوسيعه، باعتباره أداة لبناء الدولة.
القضاء في عهد بورقيبة: أداة للسلطة
لم يؤمن بورقيبة فعليًا باستقلال القضاء، بل اعتبره أداة من أدوات الحكم. وقد تجلى ذلك في:
إنشاء المحكمة العليا لمحاكمة الخصوم السياسيين.
التدخل المباشر في القضايا الحساسة.
تعيين قضاة موالين للإشراف على الجهاز القضائي.
عقد "مجالس قضائية" داخل القصر الرئاسي للفصل في القضايا.
وقد وثّق القاضي محمود شمام هذه الممارسات في مذكراته، مؤكدًا أن بورقيبة كان يرى نفسه فوق جميع المؤسسات، بما فيها القضاء.

دستور 1959: استقلال القاضي لا القضاء
رغم أن دستور 1959 نص على استقلال القضاة، فإنه لم يُقرّ استقلال السلطة القضائية كمؤسسة. بل ظلت خاضعة للسلطة التنفيذية عبر:
رئاسة رئيس الجمهورية للمجلس الأعلى للقضاء.
إشراف وزير العدل المباشر على النيابة العمومية.
غياب الاستقلال المالي والإداري للمحاكم.
كما استُخدمت المحاكم الاستثنائية، وخاصة العسكرية، لمحاكمة المعارضين السياسيين، في انتهاك صارخ لمبادئ المحاكمة العادلة.

خلاصة
يتضح من هذا المسار التاريخي أن أزمة القضاء في تونس ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تراكمات بدأت مع الاستعمار واستمرت بعد الاستقلال، حيث:
لم يتحقق الاستقلال الحقيقي للقضاء.
استُخدم القضاء أداة سياسية.
غابت الضمانات المؤسسية للفصل بين السلطات.
استمر منطق الوصاية بدل سيادة القانون.
وهو ما يفسر هشاشة المنظومة القضائية اليوم، وصعوبة إصلاحها دون مراجعة جذرية للإرث التشريعي والسياسي الذي حكمها لعقود.

الفيديو

تابعونا على الفيس