جرائم الظل في السودان… حين يصبح التوثيق سلاحًا في المعركة منى أبو زيد

خميس, 12/25/2025 - 14:56

في الحروب لا يكون الصراع على السلطة والثروة فقط، بل يمتد ليشمل المعنى ذاته. فالرصاص قد يحسم معركة، غير أن الرواية هي التي تحدد كيف سيُكتب التاريخ، ومن سيُدان، ومن سيُنسى، ومن يُعاد إنتاجه بطلاً أو مجرمًا مؤجلاً.
منذ عرف الإنسان الحروب، عرف معها التوثيق بوصفه سلاحًا موازيًا، يُستخدم أحيانًا لكشف الحقيقة، وأحيانًا أخرى لطمسها أو إعادة تشكيلها بما يخدم المنتصر. وبين نقش على جدار، ورواية يكتبها الأقوى، وصورة تلتقطها كاميرا مرتجفة، تتكوّن الذاكرة الجمعية، لا بوصفها سجلًا محايدًا، بل كساحة صراع مفتوحة.

التوثيق… بين كشف الحقيقة وصناعة السردية
لم يعد الجدل حول التوثيق مقتصرًا على الحروب الجارية، بل امتد ليشمل الماضي ذاته. فالتاريخ لم يعد يُقرأ بوصفه سردًا ثابتًا، بل بوصفه نصًا قابلًا لإعادة التفكيك والتأويل.
ويُعد الجدل الذي أثارته أطروحات يوسف زيدان حول شخصية صلاح الدين الأيوبي مثالًا واضحًا على ذلك، حيث أعاد تقديم الشخصية التاريخية بعيدًا عن صورتها البطولية التقليدية، معتمدًا على مصادر جزئية وتأويلات مثيرة للجدل. وهنا تتجلى الإشكالية: فالتاريخ حين يُقرأ خارج سياقه، أو عبر انتقاء انتقائي للمصادر، قد يتحول من أداة فهم إلى أداة تشويه.
فلا التقديس الأعمى يصنع وعيًا، ولا الهدم الكلي ينتج معرفة. والحقيقة التاريخية غالبًا ما تقيم في المنطقة الرمادية بينهما.

حين يصبح التوثيق ساحة صراع
التوثيق ليس محايدًا دائمًا. فمنذ النقوش الآشورية التي مجّدت القتل والسبي، مرورًا بروايات الرومان عن تدمير قرطاج، وصولًا إلى معركة كربلاء، ظل التاريخ يُكتب في الغالب بأقلام المنتصرين.
لكن العصر الحديث غيّر المعادلة. فقد كشفت صور الأقمار الصناعية، وشهادات الناجين، والتسجيلات المصورة، جرائم مثل مذبحة سربرنيتسا، وأسقطت محاولات الإنكار. وفي فيتنام، كانت صورة واحدة كفيلة بتغيير موقف الرأي العام العالمي من الحرب.
اليوم، لم تعد الجريمة بحاجة إلى شهود مؤرخين، بل تكشف نفسها بنفسها.

السودان… حين يوثق الجاني جريمته
في الحرب السودانية، لا يحتاج توثيق الجرائم إلى جهد استقصائي معقد. فجزء كبير منه صُوِّر بأيدي الجناة أنفسهم.
مقاطع تُظهر القتل، النهب، التمثيل بالجثث، إحراق البيوت، وإذلال المدنيين. توثيق لا يحمل أي محاولة للإنكار، بل يُقدَّم أحيانًا بروح استعراضية، وكأن العنف بات هوية، لا وسيلة.
هنا يتحول التوثيق من أداة فضح إلى أداة ترهيب، ومن تسجيل للحظة إلى رسالة سياسية:
“نحن هنا، ولا أحد سيحاسبنا.”
هذا السلوك يعكس بنية المليشيا ذاتها، حيث يُكافأ العنف، ويُنظر إلى الجريمة كدليل ولاء وقوة، لا كفعل يستوجب العقاب.

كاميرا الضحية… حين يصبح التوثيق فعل نجاة
في المقابل، ظهر نوع آخر من التوثيق في السودان: توثيق المدنيين.
توثيق لا يحمل خطابًا سياسيًا، ولا يسعى للبطولة، بل يسجل اللحظة كما هي:
قصف، نزوح، جثث في الشوارع، بيوت محروقة، أصوات أطفال تحت القصف.
هذا التوثيق لم يكن ترفًا، بل فعل بقاء. محاولة لإثبات أن ما يحدث ليس فوضى، بل جريمة مكتملة الأركان.
كثير من هذه المقاطع صُوّرت في ظروف بالغة الخطورة، وبعض من وثّقوا قُتلوا أو أُجبروا على الفرار. ومع ذلك، شكّلت هذه المواد نواة ذاكرة جمعية تقاوم المحو.

التوثيق والذاكرة… معركة لا تقل عن الحرب
اليوم، تتكوّن ذاكرة الحرب السودانية من:
تسجيلات المدنيين
شهادات الناجين
تقارير الصحفيين
توثيق المنظمات الحقوقية
صور الأقمار الصناعية
وهي مجتمعة تشكل أرشيفًا يصعب إنكاره، حتى إن تأخرت العدالة.
فالتوثيق لم يعد فقط وسيلة إدانة، بل أصبح شرطًا لمنع إعادة الجريمة، لأن ما لا يُوثّق يُنسى، وما يُنسى يُعاد ارتكابه.

خاتمة: من يملك الرواية يملك المستقبل
في الحرب السودانية، كما في كل الحروب، لا تُحسم المعركة بالسلاح وحده، بل بالرواية. وبين كاميرا الجاني التي تستعرض، وكاميرا الضحية التي ترتجف، تتحدد ملامح الذاكرة القادمة.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث ليس الإفلات من العقاب فحسب، بل أن يُكتب تاريخ هذه الحرب بطريقة معكوسة، تُدان فيها الضحية، ويُبرر فيها الجلاد.
ولهذا، يظل التوثيق المستقل، المتعدد، غير المؤدلج، هو خط الدفاع الأخير عن الحقيقة.
ففي النهاية، لا تُحاكم الحروب فقط في المحاكم… بل في الذاكرة.
ومن يملك السرد اليوم، يملك ملامح الغد.
تنويه:
الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن كاتبتها، ولا تمثل بالضرورة الموقف التحريري للجهة الناشرة.

الفيديو

تابعونا على الفيس