لماذا الآن الاتفاق بين لبنان وقبرص؟ ولماذا تعترض تركيا؟ بقلم: د. محمود الحنفي

اثنين, 12/15/2025 - 19:33

يمثل ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص أكثر من مجرد خطوة تقنية؛ فهو محطة سيادية فارقة قد تعيد لبنان إلى خارطة شرق المتوسط بوصفه دولة تمتلك حقًا قانونيًا في ثرواتها البحرية.
فالترسيم يحدد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل دولة، ويمنحها حقوقًا سيادية على الموارد الطبيعية استنادًا إلى قواعد القانون الدولي. وقد جاء الاتفاق مرتكزًا على مبدأ خط الوسط العادل، كما تكرسه اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، بما يضمن توزيعًا منصفًا للفضاء البحري، ويوفر أساسًا قانونيًا واضحًا لاستغلال الثروات.
ومن منظور قانوني وحقوقي، يضع هذا الاتفاق حدًا لحالة الغموض والتداخل التي رافقت عمليات التنقيب لسنوات طويلة، كما يشكل أرضية صلبة لجذب الشركات العالمية، بعيدًا عن مخاطر النزاعات المستقبلية.
ومع ذلك، تظل أسئلة جوهرية مطروحة: لماذا أُنجز الاتفاق الآن بعد سنوات من الجمود؟ وهل يستطيع لبنان تحويل هذا الإنجاز القانوني إلى مردود اقتصادي فعلي في ظل أزمته الخانقة؟ وهل يشكل هذا الترسيم مدخلًا لمعالجة ملفات أكثر تعقيدًا، مثل الحدود مع سوريا ومزارع شبعا، أم أن تشابكات الإقليم ستُبقيها معلقة؟

لماذا الآن هذا الاتفاق؟
جاء توقيت إبرام اتفاق الترسيم بين لبنان وقبرص بعد سنوات من التجميد نتيجة تداخل عدة عوامل. فقد شهد الإقليم نسبيًا حالة من الاستقرار بعد انحسار الحروب الكبرى، من حرب يوليو/تموز 2006 إلى الحرب السورية، إضافة إلى تراجع حدة المواجهات الإقليمية، وهدنة غزة، ما أتاح للبنان مساحة للتركيز على الملفات الاقتصادية المؤجلة.
كما أن الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان منذ عام 2019 جعل البحث عن موارد اقتصادية جديدة أولوية قصوى، وأصبح استثمار الثروات البحرية ضرورة لا تحتمل مزيدًا من التأجيل.
إلى ذلك، أسهم الاهتمام الدولي المتزايد بالطاقة، خصوصًا بعد الحرب في أوكرانيا، في تعزيز أهمية شرق المتوسط بوصفه بديلًا محتملًا لمصادر الطاقة التقليدية، ما وفر دعمًا دوليًا غير معلن لإنجاز الاتفاق اللبناني-القبرصي.
كما لعب العامل السياسي الداخلي دورًا مهمًا، مع وصول قيادة جديدة إلى الرئاسة والحكومة في بيروت، وظهور توافق سياسي نادر حول ملف الحدود البحرية، سهل اتخاذ القرار بعد سنوات من الانقسام.
الحدود البحرية مع سوريا: عقدة الشمال
رغم التقدم المحقق مع قبرص، يظل ملف ترسيم الحدود البحرية مع سوريا من أكثر الملفات تعقيدًا. فمنذ الاستقلال عام 1943، لم تُرسم الحدود البرية أو البحرية بين البلدين بشكل نهائي، ما خلق فراغًا قانونيًا أدى إلى تضارب المطالب والخرائط.
وتشير التقديرات إلى نزاع بحري قد تتجاوز مساحته 800 كيلومتر مربع، تفاقم عام 2021 عندما منحت دمشق ترخيصًا لشركة روسية للتنقيب في منطقة متداخلة مع البلوك اللبناني رقم 1، ما اعتبره لبنان تعديًا على مياهه السيادية.
اليوم، وبعد إنجاز الترسيم الجنوبي والغربي، تتجه الأنظار إلى الشمال، في ظل مؤشرات إيجابية ظهرت خلال عام 2025، بينها تشكيل لجان مشتركة وتسلم لبنان خرائط تاريخية من فرنسا تدعم موقفه، فضلًا عن تغيرات سياسية في سوريا قد تفتح الباب أمام تسوية طال انتظارها، وإن كانت الطريق لا تزال محفوفة بالعقبات.

مزارع شبعا: الحلقة الناقصة في السيادة
لا يكتمل الحديث عن السيادة اللبنانية من دون التوقف عند مزارع شبعا المحتلة منذ عام 1967. فالغموض القانوني الذي يلف هذه المنطقة، نتيجة عدم ترسيم الحدود اللبنانية-السورية، جعلها ورقة سياسية وأمنية حساسة، استُخدمت لتبرير معادلات داخلية معقدة.
وفي أواخر 2025، برزت مؤشرات واعدة، تمثلت في تسلم لبنان خرائط فرنسية تعود إلى فترة الانتداب تُظهر لبنانية المزارع، إلى جانب توافق مبدئي على تشكيل لجنة لترسيم الحدود البرية برعاية دولية وعربية. غير أن التداخلات السكانية والعشائرية في مناطق أخرى تجعل هذا المسار بالغ الحساسية.

لماذا اعترضت تركيا؟
أثار الاتفاق اعتراضًا تركيًا حادًا، يعود أساسًا إلى موقف أنقرة من القضية القبرصية، إذ لا تعترف بحكومة قبرص اليونانية، وترى أن أي اتفاقات بحرية لا تراعي حقوق القبارصة الأتراك باطلة.
كما تنطلق تركيا من رؤيتها الإستراتيجية المعروفة بـ«الوطن الأزرق»، وتخشى أن يؤدي ترسيم الحدود وفق قواعد اتفاقية قانون البحار، التي لم توقع عليها، إلى تقليص نفوذها في شرق المتوسط لصالح محور إقليمي منافس.
ورغم حدة الخطاب التركي، فإن خيارات أنقرة العملية تبدو محدودة، خاصة أن منطقة الترسيم تقع خارج جرفها القاري، وأن الاتفاق يحظى بدعم أوروبي ودولي واسع.

علاقات متوازنة
في حين ترتبط لبنان وتركيا بعلاقات تجارية وإنسانية متينة، تتسم العلاقة اللبنانية-القبرصية بالهدوء والاستقرار، وقد لعبت قبرص أدوارًا إنسانية بارزة خلال الأزمات اللبنانية. ويُتوقع أن يفتح الاتفاق الباب أمام تعاون أوسع في مجالات الطاقة، والسياحة، وربما الربط الكهربائي والغازي مستقبلًا.

ما الذي تحقق وما الذي لم يتحقق بعد؟
حقق لبنان إنجازًا قانونيًا وسياديًا مهمًا، لكنه لا يزال أمام اختبار القدرة على استكمال الملفات المعلقة، ولا سيما الحدود مع سوريا ومزارع شبعا، وتحويل الترسيم البحري إلى مدخل حقيقي للإنقاذ الاقتصادي.
كما أن إقرار الاتفاق في البرلمان، وتفعيل نتائجه اقتصاديًا، يمثلان التحدي الأكبر، حتى لا يبقى الاتفاق حبيس الأدراج.
ويبقى السؤال الأهم: هل يستطيع لبنان استثمار هذا الزخم الدبلوماسي لإعادة تموضعه في الإقليم، دون أن يدفع أثمانًا داخلية أو سيادية باهظة؟

الفيديو

تابعونا على الفيس