حين تُمحَّص القضايا وتسقط الأوهام: شهادة في رجال الدولة/ الشيخ ولد سيدي

أحد, 12/14/2025 - 16:24

في لحظاتٍ فارقة من تاريخ الدول، لا تكون الحقيقة وحدها هي التي تُختبر، بل تُختبر معها ضمائر الناس، وأخلاق الخطاب العام، وقدرة المجتمع على التمييز بين النقد المشروع وحملات التشويه التي لا تتغذى إلا على الالتباس وصيد الفرص في المياه العكرة. ومن هذا الباب جاء قرار النيابة العامة بحفظ الدعوى في ما عُرف إعلاميًا بملف مختبر الشرطة، وهو القرار الذي أعاد الأمور إلى نصابها، ووضع حدًا لسيلٍ من التأويلات والتجنيات التي طالت أسماءً خدمت الدولة في مواقع حساسة.
لقد شمل هذا القرار كُلًّا من الجنرال، المدير العام السابق للأمن الوطني مسغارو ولد اغويزي، ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والموريتانيين في الخارج محمد سالم ولد مرزوك، والوزير السابق سيدي ولد ديدي. وهي أسماء لم تكن يومًا عابرة في سجل الدولة، ولا طارئة على العمل العام، بل ارتبطت بمسؤوليات جسيمة في فترات دقيقة، حيث يكون الخطأ مكلفًا، ويكون الاستقامة أثمن من أي مكسبٍ عابر.
إن المتابع المنصف لمسار هؤلاء يدرك أن ما جرى لم يكن سوى محاولة لجرّ النقاش من ساحة الوقائع إلى ساحة الإيحاء، ومن منطق القانون إلى منطق الضجيج. لكن الدولة، حين تعود إلى مؤسساتها، لا تحكم بالضجيج، بل بالملفات، ولا تُدان الرجال بالشبهات، بل بالأدلة. وحين تنتفي الأدلة، تسقط الاتهامات، ويبقى ما بقي دائمًا: السيرة، والمسار، وميزان الخدمة العامة.
لقد عُرف الجنرال مسغارو ولد اغويزي، خلال توليه إدارة الأمن، بالصرامة المهنية والانضباط المؤسسي، وبالسعي إلى ترسيخ هيبة الدولة دون استعراض، وحماية القانون دون انتقائية. أما الوزير محمد سالم ولد مرزوك، فقد راكم تجربة دبلوماسية وأمنية جعلته من الوجوه التي تجمع بين الفهم العميق لمصالح الدولة والقدرة على تمثيلها بثبات واتزان في المحافل الدولية. ويأتي اسم سيدي ولد ديدي في السياق نفسه، رجل إدارةٍ وسياسةٍ، لم تُعرف عنه مغامرات شخصية ولا نزوع إلى توظيف المنصب لغير الصالح العام.
وإذا كان في هذه الحادثة درس، فهو أن بعض الأصوات التي سارعت إلى الهجوم لم تكن مدفوعة بحرصٍ على الحقيقة بقدر ما كانت مدفوعة برغبة في الاستثمار في الالتباس، كما قال العرب قديمًا: “إذا اختلط الحابل بالنابل، طمع كلُّ ضعيف.” غير أن التاريخ، وإن تأخر، لا يخطئ كثيرًا في فرز رجاله.
ولعل أصدق ما يُستشهد به في هذا المقام قول المتنبي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ
وقول الإمام الشافعي رحمه الله:
إذا نطق السفيه فلا تجبه
فخيرٌ من إجابته السكوتُ
فإن كلمته فرّجت عنه
وإن خليته كمَدًا يموتُ
إن حفظ الدعوى لم يكن انتصارًا لأشخاص بقدر ما كان انتصارًا لمنطق الدولة، ورسالة واضحة بأن الاتهام ليس بديلًا عن الدليل، وأن النزاهة، مهما حاول البعض تشويهها، تبقى عصيّة على السقوط حين تُمحَّص الأمور تحت ضوء القانون.
وهكذا، يخرج هؤلاء من هذه المحطة كما دخلوا العمل العام: مرفوعي الرأس، تاركين للضجيج أن يهدأ، وللحقيقة أن تقول كلمتها الأخيرة، وهي الكلمة التي غالبًا ما تأتي متأخرة، لكنها حين تأتي، تكون أثقل وزنًا وأبقى أثرًا.

الفيديو

تابعونا على الفيس