لماذا تختار بابا الفاتيكان الجديد زيارة تركيا أولا؟ محمد السعيد

اثنين, 12/01/2025 - 12:06

كان هواء مدينة "إزنيك" (التي عُرفت تاريخيا بـ"نيقية") مشبعا برطوبة خريفية باردة عندما هبطت مروحية بابا الفاتيكان ليو الرابع عشر يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. للوهلة الأولى، لا يبدو أن تلك البلدة الصغيرة الهادئة، التي يسكنها نحو 45 ألف نسمة في بيوت قديمة تتزين شرفاتها بالورود واللبلاب، كانت يوما مركزا حضاريا بارزا في التاريخ.
فمن يعبر ضفاف بحيرة إزنيك قد لا يدرك أن هذا المكان كان في الماضي بؤرة محورية للإمبراطورية البيزنطية والخلافة العثمانية. وهناك، حيث ينحسر الماء عن أطلال كاتدرائية القديس يوفنتوس المشيدة أواخر القرن الرابع، تتجسد لحظة تاريخية شهدت اجتماع الإمبراطور الروماني قسطنطين ورجال الدين المسيحي لوضع ركائز العقيدة وتأسيس ما أصبح لاحقا "قانون الإيمان المسيحي" خلال مجمع نيقية سنة 325م.
استعادة الذاكرة المسيحية
على نفس الأرض التي شهدت المجمع التاريخي، وقف البابا ليو الرابع عشر برفقة البطريرك المسكوني برثلماوس الأول وكبار قادة الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية واليونانية والسريانية والقبطية والأرمنية والبروتستانتية و الأنجليكانية، في مشهد بصري نادر يجسد مسيحية منقسمة تبحث عن استعادة وحدتها.
وبينما مر نحو 1700 عام على مجمع نيقية ونحو 970 عاما على الانشقاق العظيم عام 1054 الذي قسم العالم المسيحي بين الشرق والغرب، بدا ليو الرابع عشر وكأنه يخاطب التاريخ نفسه، داعيا إلى تجاوز قرون من القطيعة بين الكنيستين.
دلالات اختيار تركيا
لا تعد تركيا محطة غريبة على باباوات الفاتيكان، غير أن زيارة ليو الرابع عشر حملت رمزية نوعية تختلف عن سابقاتها. الأناضول احتضن المجامع المسكونية السبعة التي أسست للاهوت المسيحي بين القرنين الرابع والثامن الميلاديين، وفي إزنيك تحديدا وُلدت عقيدة التثليث بصيغتها المجمعية.
لكن الرسالة الأهم للزيارة تتمثل في طابعها التوحيدي؛ إذ يبدو أن البابا الجديد اختار أن يضع بصمته عبر إعادة وصل ما انقطع بين الشرق والغرب المسيحيين، مستلهما لحظة نيقية الأولى.
بابا من العالم الجديد
انتخاب البابا ليو الرابع عشر –الأميركي الأول في تاريخ الفاتيكان– أثار جدلا واسعا، بسبب حساسية الجمع بين النفوذ الأميركي والسلطة الروحية الكاثوليكية. لكن خلفيته المزدوجة (أميركية وبيروفية) وعمله الطويل في أميركا اللاتينية ساهما في تهدئة تلك المخاوف.
ويقدَّم البابا الجديد بوصفه تجسيدا لعالمية الكنيسة الكاثوليكية، وتحولا بعيدا عن الهيمنة الأوروبية التاريخية. كما أن اختياره اسم "ليو" يستدعي إرث ليو الثالث عشر الذي اشتهر برسالته المؤثرة "الأحوال الجديدة" المدافعة عن حقوق العمال والفقراء.
يحاول البابا ليو الرابع عشر أن يرسخ صورة "البابا الأممي" لا الأميركي، مبتعدا عن الاستقطابات السياسية، ومرسخا خطابا اجتماعيا أقرب إلى الفقراء والمهمشين منه إلى مراكز النفوذ الغربية.
تركيا.. مركز التقاء الأديان والجغرافيا
زيارة البابا لأنقرة وإزنيك لا يمكن فصلها عن خريطة جيوسياسية معقدة. فتركيا تقف عند نقطة التقاء أوروبا وآسيا، والمسيحية والإسلام، وهي دولة ذات أغلبية مسلمة لكنها عضو في "الناتو" وترتبط بعلاقات استراتيجية مع الغرب.
ويبدو أن موقف الفاتيكان المتشدد نسبيا تجاه حرب غزة –خصوصا بعد استهداف الاحتلال للكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع– كان أحد العوامل التي دفعت البابا ليو إلى فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي.
رغم أن عدد الكاثوليك في تركيا لا يتجاوز 33 ألفا، فإن وجودهم يحمل أهمية لاهوتية ورمزية كبيرة، خاصة في ظل وجود البطريركية المسكونية التي تمثل مركزا أرثوذكسيا عالميا، رغم عدم اعتراف تركيا قانونيا بلقبها "المسكوني".
صراع الرمزية والمكانة
شهدت البطريركية المسكونية في السنوات الأخيرة دورا كبيرا في الشؤون الأرثوذكسية العالمية، أبرزها منح الاستقلال للكنيسة الأوكرانية عن الكنيسة الروسية، ما أثار غضب موسكو. وتخشى أنقرة أن يفتح الاعتراف الدولي بتلك المكانة الباب أمام طموحات سياسية قد تتجاوز حدود تركيا.
وتأتي زيارة البابا ليو في هذا السياق كرسالة مزدوجة: دعم الكنائس في تركيا ولكن من بوابة الدولة التركية نفسها، وبما يضمن استمرار التوازن الدقيق بين الدين والسياسة في البلاد.
البابا بين لبنان وفلسطين
بعد تركيا، يتوجه البابا إلى لبنان، البلد العربي الوحيد الذي يرأسه مسيحي، والذي يحتضن أكبر تجمع مسيحي في الشرق الأوسط. وتكتسب زيارته أهمية خاصة في ظل الانهيار الاقتصادي والسياسي الذي يعصف بالبلاد.
أما فلسطين فتبقى محورًا آخر لزيارات البابا، في ظل الحرب المدمرة على غزة، ما يضع الفاتيكان أمام اختبار أخلاقي وسياسي حساس يتعلق بوزنه العالمي وتأثيره في قضايا العدل والسلام

الفيديو

تابعونا على الفيس