اسويدات ولد وداد: ضابطٌ ارتقى شهيدا دفاعًا عن الوطن وذاكرة الأمة

اثنين, 11/24/2025 - 08:34

يحتل الرائد اسويدات ولد وداد مكانة رفيعة في سجلّ موريتانيا الحديث؛ فهو واحد من أولئك الرجال الذين نذَروا أعمارهم لبناء الدولة الفتية، وأسهموا بأفعالهم ومواقفهم في رسم ملامح المؤسسة العسكرية وتثبيت ركائزها.

التكوين العسكري ... والنبوغ
وُلد في مدينة أكجوجت عام 1934، والتحق بالسلك العسكري في مرحلة مبكرة من حياته المدرسية، فانطلق طفلًا للجندية في المدرسة العسكرية بدكار بين 1948 و1952، فأظهر نبوغا متميزا تأكد وظهرتْ تجلياته فورما بدأ مساره العسكري المؤسساتي بالانتساب الرسمي للقوات المسلحة عام 1952.

لم يكن سويدات مجرد ضابط واعد؛ بل كان استثناءً في انضباطه ومهنيته، في شجاعته وقيمه الأخلاقية. وقد تلقى تكوينه في مدارس عسكرية مرموقة، من بينها مدرسة الضباط بفريجوس بفرنسا ما بين 1960 و1962، ليُصبح من أوائل الضباط المظليين في موريتانيا، ومن أعمدة التأسيس المهني لوحدات المظليين والكوماندوز.

النموذجية في المسار المهني .. والسقوط على ساحة الشرف

تولى قيادة كوماندوز "اجريدة" سنة 1962، قبل أن يشغل قيادة الكتيبة الأولى للمظليين ومركز التدريب على القفز؛ وهناك تميّز بقوة شخصيته، وعمق خبرته، وقدرته على صهر الرجال في بوتقة الانضباط والتضحية.

وفي سنة 1971، اختارته الدولة قائدًا للحرس الوطني، فكان عند مستوى الثقة، إذ أسهم بجهد مشهود في بناء هذه المؤسسة، وتحديث هيكلها، وترسيخ منظومتها الانضباطية، حتى غدت قوة منظمة وفاعلة في خدمة الأمن الوطني.
ثم تواصل عطاؤه المهني ولكن في مجال الإدارة الإقليمية هذه المرة، عندما عُيّن سنة 1975 والياً مساعدًا للمنطقة الأولى، قبل أن يُسند إليه شرف قيادة تجمّع "عين بنتيلي" وإدارة مركزها الإداري، بينما الحرب في أوجها.

في تلك الظروف وفي صباح 19 يناير 1976، ارتقى القائد سويدات ولد وداد على ساحة الواجب والشرف، واستشهد على رأس وحدته، ثابتًا في موقعه، مؤمنًا بواجبه، وفيًا لوطنه، تاركًا للأمة سيرةً تلهم، وذكرى تبقى، وإرثًا لا يمحوه الزمان.

بعيدا عن فقر الذاكرة الوطنية وعن فقر الروابط بين الأجيال..

إن تخليد سيرة هذا الشهيد البارّ ليس مجرد استحضار لصفحات من الماضي، بل هو موقف من الحاضر واستشراف للمستقبل. فالأمم التي تُهمل شهداءها وتترك سيرهم تتلاشى، تُصاب بما يُسمّيه المختصون "فقر الذاكرة" (pauvreté mémorielle)؛ وهو ضعفٌ في قدرة المجتمع على حفظ رموزه، وصون أحداثه المؤسسة، وتدوين لحظاته الفارقة.

تكريم الشهيد اسويدات وامثاله من شهدائنا هو، في جوهره، معركة ضد هذا الفقر؛ لأنه يعيد ربط الأمة بتاريخها الحيّ، ويؤكد أن رجال الواجب باقون في ذاكرة الوطن مهما طال الزمن.

لكن الحفاظ على الذاكرة يبقى ناقصا ومهددا إن لم يتم العمل على حماية الجسور الممتدة بين الأجيال نحو المستقبل. وهنا يجب التركيز على أن رعاية أبناء الشهداء هي امتداد عضوي للذاكرة الوطنية، وضمانة لئلا يسري هذا الفقر الخطير، أي: فقر التواصل بين الأجيال (pauvreté de la mémoire intergénérationnelle).

وإذ تجمع مبادرة «قف الفقر» بين تكريم الشهيد ومساندة أبناء االشهداء، فإنها توحد بين هاتين المتلازمتين:

محاربة فقر الذاكرة عبر حفظ سيرة الأبطال،
محاربة فقر الروابط بين الأجيال عبر رعاية من تركهم الأبطال وراءهم.
القانون الإنساني قبل زمانه...

وأخيرا اسمحوا لي بأن أعود إلى المسار المهني للمرحوم لأذكربجانب منه يستدعي التأمل منا في مواقفه الاستباقية وروافدها الأخلاقية.

لقد تولي الإشراف علي تأسيس وحدة المظليين وقوات الصاعقة في البلاد، وكان أول ضابط مظلي موريتاني. وقد برزت وحدته عام 1966 بشكل ملحوظ لما نجحت بفعالية منقطعة النظير في إخماد الأحداث العنصرية الخطيرة التي هددت آنذاك كيان الدولة الناشئة لولا مهنية والتزام المرحوم وقوة إيمانه.

ورغم عنف الأطراف المتنازعة وخطاباتهم العنصرية المعلنة، فإن تدخل المظليين لم تشبه شائبة، لا مهنية ولا أخلاقية: لا تجاوزات ضد المدنيين، ولا غيرها من التصرفات الفاسدة أو الإجرامية التي كثيرا ما ترتكبها القوات المسلحة أو تتهم بها في هذا النوع من الأوضاع.
فيمكن الجزم بأن المرحوم حينها تحلّى بخصال احترام القانون الإنساني رغم كون المفهوم لم يكن معروفا أنداك. فما السر وراء سلوكه هذا إن لم يكن ما منّ الله عليه به من خصال العبد الصادق مع ربه ومع نفسه ووطنه؟

... عساه يستبشر بنا..

هكذا كان البطل اسويدات ولد وداد، وهكذا ارتقى شهيدا، وهكذا نتذكره اليوم وسيبقى، عملا بقول خالقه وخالقنا -عز وجل:

" وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"، (صدق الله العظيم).

ورجائي عند الله أن أكون وإياكم من الذين يستبشر بهم المرحوم الرائد اسويدات وغيره من الشهداء؛ أي: أن نكون من الذين "أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". آمين، يا رب العالمين.

عقيد (متقاعد) البخاري محمد مؤمل (اليعقوبي)

نواكشوط، 22 نوفمبر

------------------------------

(*) تمت كتابة والقاء هذا النص يوم 20 نوفمبر 2025 في نواكشوط من طرف مؤلفه. وذلك في إطار حفل تأبين للشهداء ودعم لأبنائهم. وهي عملية دأبت منذ اعوام منظمة "قف الفقر" على تنظيمها سنويا تحت قيادة رئيسة المنظمة د. فاطمة بنت اغربط.

تصنيف:

الفيديو

تابعونا على الفيس