
في سبتمبر/أيلول 2019، وقبل شهر من فوز قيس سعيّد بالانتخابات الرئاسية التونسية، كتب مراسل صحيفة لوبوان الفرنسية، بنوا دلماس، مقالًا عن سعيّد، الصاعد إلى السلطة بسرعة الصاروخ، وضع له عنوانًا: "روبسبيار في حملته الانتخابية". المؤكد أن دلماس لم يكن يعلم أن الوقت سيثبت أن المقارنة التي عقدها بين الرجلين ستغدو أكثر دقة من مجرد عنوان عابر لوصف مرشح رئاسي طموح.
ففي عام 1758 وُلد القانوني الفرنسي ماكسيميليان دو روبسبيار، الذي يُعد أحد أكثر الأشخاص تأثيرًا في تاريخ الثورة الفرنسية. صعد دو روبسبيار بسرعة بالغة إلى رأس السلطة في فرنسا بعد الثورة عام 1789، بعدما اجتذب دعمًا شعبيا هائلًا بسبب شخصيته القانونية، وفصاحته وقدرته على الإقناع والمحاججة، وعدائه الشديد للنخب السياسية، ودفاعه عن الفئات الأكثر ضعفًا من شعبه. لكن دو روبسبيار المؤمن بقيم الثورة ومثالياتها لم يلبث طويلًا قبل أن يتحول عهده الذي أراده تطهيرًا لفرنسا من أعداء الثورة؛ إلى "عصر الإرهاب".
تأثر دو روبسبيار كثيرًا بفيلسوف عصر الأنوار مونتسكيو، وهو ما جعله يعتبر معركته فوق السياسة، ترتكز على المبادئ الأخلاقية. لذلك ركّز السلطات في يديه، وقمع معارضيه، واعتبر كل مخالف لنهجه عدوًا للثورة، وتحوّل من معارض للإعدام إلى أكبر مشرف على عمليات إعدام جماعية في تاريخ فرنسا، حيث أُعدم أكثر من 16 ألف فرنسي تحت المقصلة في عام واحد، وسُجن نصف مليون آخرون.
يتشابه صعود دو روبسبيار وإيمانه بالقانون، ثم انقلابه عليه وبدؤه عصر الإرهاب بعد الثورة الفرنسية، إلى حد كبير، مع صعود الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي وُلد في عام 1958 بعد 200 سنة بالضبط من مولد دو روبسبيار.
فكلاهما صعد إلى السلطة من خارج النخب السياسية المعروفة، وكلاهما من خلفية قانونية ويتمتعان بلغة فصحى، وكلاهما جاء إلى السلطة عقب الثورة بعدما وعد بالإصلاح والحرية، قبل أن يركز كل السلطات في يده، وكلاهما تأثر بمونتسكيو إلى حد بعيد. غير أن عهد دو روبسبيار انتهى سريعًا بعد عام واحد في السلطة، حين توحدت المعارضة التي هددها، لتعلن أنه ومؤيديه خارجون على القانون، ليُعدَم بالمقصلة في اليوم التالي للقبض عليه في يوليو/تموز 1794.
لكن، على خلاف دو روبسبيار، لم تنته قصة قيس سعيّد بعد، ويبدو أن فصولها لا تزال حبلى بالأحداث!
**بصوته الآلي وقناعه الطبي**
بصوته الآلي، ومن خلف قناع طبي يخفي أسنانه التي ينبئ لونها عن مدخن شَره، بدأ الرئيس التونسي قيس سعيد لقاء ضيفه قائلًا: "أثناء قدومي إلى هنا، تذكرت قصة قديمة حين ادعى شخص النبوة، وسار في الناس قائلًا إني رسول الله إليكم، فسمع به الملك، فغضب وقال: وعزتي وجلالي، ما بعثت إليكم من أحد". فسّر سعيد طرفته -بنفس النبرة الرتيبة- من غير أن يضحك، بالقول إن كان ذلك قد ادعى النبوة، فقد ادعى هذا الألوهية، ثم شرع في انتقاد النظام التونسي قبل الثورة باعتباره نظامًا يمثل مدّعي الألوهية.
انتقد سعيد نظام تونس وقتها لأنه نظام رئيس واحد، وحزب واحد، وصوت واحد، بلا تعددية وبلا رادّ لقضاء الرئيس. كان اللقاء مثيرًا لأسباب عديدة، فالمكان كان قصر قرطاج، والضيف لطفي زيتون، القيادي السابق في حركة النهضة ومستشار زعيمها الشيخ راشد الغنوشي، أما الزمان فهو 21 يونيو/حزيران 2021، أي قبل شهر واحد من إعلان سعيد الأحكام العرفية وحل البرلمان، في الخطوة التي بدأت تحوّله إلى ملك أو ما يشبه الملك!
لم يكن سعيد قد أتم عامين في منصبه كرئيس للجمهورية، لكن لعله كان قد أدرك أن مشروعه لتونس لا يمكن له أن يتمّه اعتمادًا على صلاحياته كرئيس للجمهورية، ولا مع إضافة صلاحيات رئاسة الوزراء، ولا حتى رئاسة البرلمان فقط، فقرر سعيد على مدار الأعوام الثلاثة التالية أن يجمع السلطات كلها بين يديه، وأن يحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وأن يجعل لقراراته سلطة القانون، وأن يصوغ دستورًا جديدًا، وألا يسمح لأحد بالاعتراض أو حتى التساؤل، سياسيا كان أو صحفيا، وأن يسجن كل من يستريب لأمره، بمن فيهم ضيفه في قصر قرطاج لطفي زيتون الذي حُكم عليه مؤخرًا بالسجن 35 عامًا!
**من أستاذ قانون إلى "روبوكوب" السياسة**
في يوم خريفي بارد من عام 2019، انتخب التونسيون رئيسًا لم يكن الأوفر حظًا للصعود إلى سدة الرئاسة، بل وحتى وقت قريب لم يكن يعدّ نفسه من بين السياسيين أصلًَا. فاز قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري المستقل، بأغلبية ساحقة في الانتخابات، مستغلًا ضيق الشعب بالنخبة السياسية وحالة الاشمئزاز العام التي سادت البلاد، وعززها هو بخطابه.
فاز أستاذ الجامعة الذي لم يحصل على درجة الدكتوراه أبدًا، والذي يظهر التقشف على قسمات وجهه، وتبرز الصرامة في وقفته ونبرته التي لا تعرف التموجات. في سن 61، لم يكن سعيد قد شغل منصبًا رسميًا قط، ولم ينتمِ إلى أي حزب سياسي، بل إننا لن نبالغ إن قلنا إنه لم يقم بحملة انتخابية حقيقية حتى قبل وصوله إلى الرئاسة. كان سعيد باحثًا في القانون الدستوري، وكان معروفًا بنزاهته وأسلوبه الآلي في الحديث، الذي أكسبه لقب "روبوكوب"، في تشبيه ساخر بشخصية سينمائية نصف آلية ونصف بشرية بتعبيرات وجه جامدة وحركة ميكانيكية. لكن ما افتقر إليه سعيد من الخبرة السياسية، عوّض عنه بصورته كزاهد في السلطة، وصادق في مخاطبة الشعب.
**الانقلاب الذاتي وتجميد البرلمان**
في خطاب متلفز أعقب اجتماعًا طارئًا مع قادة الجيش والأمن، استشهد سعيد بالمادة 80 من الدستور التونسي، والتي شذ في تفسيرها عن خبراء الدستور في تونس وخارجها، ليمنح نفسه صلاحيات الطوارئ، ويقيل رئيس الوزراء، ويجمّد عمل البرلمان، ويتولى السلطة التنفيذية! كانت لحظة عجيبة، استولى فيها سعيد على كل السلطات.
لقد نجح الرئيس التونسي في تنفيذ ما تعارف علماء السياسة على تسميته: الانقلاب الذاتي.
ادعى سعيد في البداية أن إجراءاته الطارئة ستستمر 30 يومًا فقط، وحين اقترب الموحد النهائي، مدد تجميد عمل البرلمان "حتى إشعار آخر"، وبحلول سبتمبر/أيلول 2021، أصدر مرسومًا ليستولي بموجبه على جميع السلطات التنفيذية والتشرعية. تحولت تونس في تلك اللحظة إلى دكتاتورية فردانية بشكل فعلي.
**قمع المعارضة واستهداف الإسلاميين**
استهدف سعيد كذلك كل المؤسسات المستقلة التي أُنشئت بعد عام 2011، فقد حل المجلس الأعلى للقضاء، وهو الهيئة الأهم في ضمان استقلال القضاة في تونس. أما القضاة الذين تجرؤوا على انتقاد سعيد وقراراته، فقد فُصلوا أو اعتُقلوا.
كانت حركة النهضة أول المستهدفين، وكان زعيمها الشيخ راشد الغنوشي أحد أبرز الضحايا. وفي ليلة 27 رمضان، داهم أكثر من 100 عنصر من الشرطة منزل الشيخ الذي ناهز سن 82 وألقوا القبض عليه. اتهم سعيد الغنوشي بالتآمر على أمن الدولة، والذريعة كانت تسجيلًا قال فيه الغنوشي إن استبعاد تيارات سياسية معينة سيؤدي حتمًا إلى اضطرابات في تونس، وهو التصريح الذي حوّله سعيد والقضاء الذي يسيطر عليه إلى "تحريض على الحرب الأهلية".
**الاستبداد الأبوي وخطاب الكراهية**
أقحم قيس سعيد لغة الأخلاق والقيم بشكل كبير في خطابه السياسي، حيث يركز على نزاهة الحكم ورفض الفساد. قد تكون هذه الرمزية جزءًا من محاولته لفرض نموذج أخلاقي للحكم، لكنها في الوقت نفسه تعكس نوعًا من السلطة "الأبوية"، حيث يرى القائد نفسه حاميا للشعب وأخلاقه.
عندما احتاج سعيّد إلى فزاعة جديدة ليخيف بها "الشعب"، لم يجد أضعف من المهاجرين الأفارقة. فقد جاء خطابه عن "جحافل" المهاجرين القادمين ضمن "ترتيب عالمي" لتغيير التركيبة الديمغرافية في تونس، لم يكن وليد لحظته، بل كان استدعاءً مباشرًا لنظرية "الاستبدال العظيم" العنصرية.
**الوضع الاقتصادي المتردي**
بعد سنة واحدة من وصول قيس سعيد إلى السلطة، رصدت وسائل الإعلام كيف يشعر التونسيون بخيبة أمل حقيقية. أما الآن، فقد تحولت خيبة الأمل إلى غضب مكتوم يوشك أن ينفجر. فالتونسيون اليوم يقارنون الطوابير الطويلة للحصول على الوقود وغاز الطهي، وانقطاعات الكهرباء، وأرفف المتاجر الفارغة، بما كان عليه الحال إبان الأزمة الاقتصادية في أواخر الثمانينيات.
**الموقف الدولي المتردد**
كانت الديمقراطية التونسية محط أنظار القوى الغربية وقوى الإقليم المناهضة للتغيير على حد سواء. لذلك، ربما توقع البعض أن تحظى تحولات سعيد ناحية السلطوية المطلقة بنقد غربي صاخب. لكن عقب انفراده بالسلطة، تراوحت ردود الفعل الغربية بين الصمت والدعم الهادئ، في تذكير جديد بما يعنيه الالتزام الغربي بمبادئ الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير المصير.
مستقبل مجهول
الآن يترأس سعيد البلاد وهي على مفترق طرق. تبدو تونس اليوم أقل حرية وأكثر قمعًا من أوقات عديدة سابقة، حيث يُسجن الصحفيون والسياسيون المعارضون والنشطاء ورجال الأعمال والقضاة. أما حريات التونسيين التي حصّلوها بشقّ الأنفس، فقد حرص سعيد على إنهائها تمامًا.
يشير هذا إلى صفة جوهرية في حكم قيس سعيد: إنه يحتاج إلى أعداء كي يزدهر، وإن لم يكونوا موجودين، لكونهم في السجن أو في المنفى أو تحت سيف القمع، فسيختلقهم سعيد، لأنه بدون أيديولوجية واضحة، ولا خارطة اقتصادية، ولا حزب ببرنامج محدد، لن يستطيع سوى اللجوء إلى سياسة واحدة: المواجهة الدائمة. وستكون مشكلة سعيد ألا يبقى أحد ليواجهه، أو ألا يجد فزاعة يخيف بها التونسيين.
المصدر: الجزيرة مواقع إلكترونية
