
أستاذ الشؤون العامة ومدير مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم في تركيا
كانت حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة التي أعقبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تهدف إلى كسر الشعب الفلسطيني وفرض الاستسلام وتفريغ غزة من أهلها وإرهاب الضفة الغربية وإخضاع شعب كامل من خلال النار والخوف والجوع، لكنها فشلت. لم ينكسر الفلسطينيون، دفنوا شهداءهم وأسعفوا جرحاهم وتمسكوا بأرضهم وبالحقيقة الدائمة أن قضيتهم لا تطفئها حصارات ولا قصف ولا تهديد. شاهد العالم حملة شاملة من الإبادة والتدمير تبث مباشرة من كل هاتف، ومعها انكشف إفلاس نظام دولي يزعم التحضر وهو يسلح كيانا استعماريا استيطانيا يقتل الأطفال ويجوعهم.
يضع هذا الفشل الكيان الصهيوني أمام خيار إستراتيجي طالما حاول تجاهله. لم يعد بوسعه الادعاء بأن الهيمنة تُقبل بوصفها سلاما أو أن الفصل العنصري يُقبل بذريعة الأمن أو أن التهجير الجماعي يُقدم كعملية إنسانية. لقد سقط القناع. والسؤال الآن ليس هل سيغير الكيان الصهيوني مساره، بل أي مسار سيسلك وكيف سيسرع كل مسار بدوره نهاية المشروع الصهيوني بوصفه نظام هيمنة وتفوق عرقي على شعب أصيل في وطنه منذ آلاف السنين.
هناك أربعة سيناريوهات ترسم الأفق اليوم، كل منها يكشف التناقض الداخلي لمشروع يريد ادعاء الديمقراطية بينما ينكر الحقوق الأساسية، يريد الأرض دون أهلها، ويريد شرعية دولية دون قانون دولي. كل مسار يقود إلى الوجهة نفسها: تفكيك بنى الهيمنة والسيطرة الصهيونية لاستعادة العدالة للفلسطينيين وتحقيق سلام حقيقي للمنطقة.
السيناريو الأول: مآل الدولتين
لا يزال العالم يدعو إلى ما يسمى بحل الدولتين، وكان هذا المسار السياسي يفترض أن يكون حصيلة عملية أوسلو الفاشلة منذ 1993. تصدر العواصم البيانات، وينفض الدبلوماسيون الغبار عن خرائط قديمة، والعبارات مألوفة: دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية، إزالة المستوطنات غير القانونية، وإنهاء الاحتلال والحصار. لكن الجميع يعرف أيضا لماذا يبقى هذا الهدف بعيد المنال. فالضفة الغربية مخنوقة بمئات الحواجز، والاستيلاء على الأراضي مستمر، بينما تتمدد كتل الاستيطان وتُجزأ الأرض الفلسطينية إلى جزر تحت الهيمنة الصهيونية.
لقد أمضى الكيان الصهيوني عقودا لجعل قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا مستحيلا، ثم يشير بعدها إلى سياسات فرض الأمر الواقع التي صنعها ليدعي أنه لم يبقَ ما يتفاوض عليه. وحتى لو افترضنا وجود جهود دولية حقيقية لقيام دولة فلسطينية، فإن عودة الكيان إلى حدود ما قبل 1967 ستكبح أحلام التوسع وتنهي أدوات الضم. لكن معظم الإسرائيليين يرون أن دولة فلسطينية ذات سيادة تمثل تهديدا وجوديا للأيديولوجيا الصهيونية لأنها تقرر المبدأ الجوهري: أن الفلسطينيين شعب ذو حقوق. ولذلك سيقاوم الكيان هذا المسار بكل وسيلة.
السيناريو الثاني: دولة ديمقراطية واحدة
الأرض بين النهر والبحر وحدة جغرافية واحدة. فإذا أصر الكيان الصهيوني على فرض سيطرته على كامل هذه الأرض، ثم خضع للضغط العالمي ليقر نظاما سياسيا واحدا بحقوق متساوية، فلن يستطيع بعدها الادعاء بأنه "دولة يهودية". يمكنه أن يكون دولة ديمقراطية أو إثنية-دينية، لكنه لا يستطيع الجمع بين الأمرين. الواقع الديمغرافي حسم الجدل، فالفلسطينيون يشكلون اليوم أكثر من نصف السكان في فلسطين التاريخية. نظام واحد يضمن المساواة سينهي الصهيونية كمشروع استعلائي ويستبدلها بدولة مدنية للمواطنين المتساوين، ولهذا يرفضها الكيان لأنها تناقض أسس وجوده.
السيناريو الثالث: ترسيخ نظام فصل عنصري دائم
هذا هو الخيار الذي يسلكه الكيان منذ سنوات: ضم الأرض، ومسح الخط الأخضر فعليا، مع إبقاء غزة تحت الحصار والضفة تحت الحكم العسكري، ومصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات. يدعي الأمن بينما يقصد الهيمنة، ويزعم أن الاحتلال مؤقت بينما هو دائم. لكن بعد السابع من أكتوبر 2023 تراكمت الإدانات ضد حرب الإبادة في غزة، ووصفت منظمات العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وبتسيلم الكيان بأنه نظام فصل عنصري. كما أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر بالتدابير المؤقتة، وأصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قادته. ومع تصاعد الضغط الشعبي حول العالم وازدياد عزلة الكيان، فإن نظام الفصل العنصري لن يدوم طويلا.
السيناريو الرابع: الترحيل الجماعي
هذا هو الوهم القديم لفكرة "الترانسفير" بثوب عصري. يتصور الصهاينة أنه إذا عجزوا عن حكم شعب ما يمكنهم إزالته. يتحدثون عن "الانتقال الطوعي" و"الممرات الإنسانية"، لكن الهدف الحقيقي هو التطهير العرقي. إلا أن غزة أثبتت حدود هذه الفكرة؛ فعلى الرغم من حرب دموية استمرت عامين لم يغادر الفلسطينيون أرضهم. لقد رفضت دول المنطقة أن تكون أدوات تهجير، وأصبح من المستحيل إخفاء الجرائم في عصر الكاميرات والهواتف. فشلت محاولة التهجير القسري فشلا ذريعا، وأي محاولة مستقبلية لطرد الفلسطينيين ستسرع بانهيار شرعية الكيان وتعجل نهايته.
نهاية الصهيونية السياسية
أيا يكن السيناريو، فالنهاية حتمية. لا يستطيع الكيان قبول دولة فلسطينية حقيقية دون التخلي عن التوسع، ولا يستطيع قبول دولة ديمقراطية دون إنهاء تفوقه العرقي، ولا يستطيع الحفاظ على الفصل العنصري دون أن يصبح منبوذا، ولا يستطيع تنفيذ الترحيل دون إشعال أزمة دولية. المسألة لم تعد بين نصر وهزيمة بل بين صيغ متعددة من التراجع. لم تعد الأزمة "القضية الفلسطينية" بل أصبحت "المشكلة الإسرائيلية" التي ينبغي على العالم مواجهتها.
تفكيك البنى الصهيونية هو الهدف الإستراتيجي
التفكيك ليس شعارا بل إستراتيجية كبرى. عنصرها الأول هو إبقاء الفلسطينيين متجذرين على أرضهم ودعم صمودهم وإنهاء الحصار والإفراج عن الأسرى وتأمين إعادة الإعمار دون ابتزاز سياسي. الصمود والمقاومة هما المركز الأخلاقي لهذه المعركة، وبدونهما تصبح العدالة مجردة. أما العنصر الثاني فهو بناء حركة عالمية تنهك المشروع الصهيوني في كل مكان: مقاطعة الشركات المتورطة في الاستيطان، ربط التجارة والبحوث بالامتثال للقانون الدولي، فرض حظر السلاح، وحماية الصحفيين والمدافعين عن الحقوق. يجب أن تكون حركة شاملة عابرة للحدود تضم النقابات والطلبة والمثقفين والفنانين والجماعات الدينية، وتضم أيضا اليهود الرافضين للصهيونية وكل المؤمنين بالحرية والكرامة.
إن الإطار الأخلاقي لهذه الحركة واضح: الصهيونية أيديولوجيا عنصرية استعلائية ومشروع استيطاني إحلالي، وهي ليست اليهودية. جوهر الصراع مع الأيديولوجيا لا مع الدين. كما أن معاداة اليهودية مرفوضة مثل الإسلاموفوبيا وكل أشكال العنصرية. النظام القائم على العدل ينهي الخوف والتمييز ويعيد السيادة لأهل البلاد.
على المدى القريب سيحاول الكيان الحفاظ على اختلال توازن القوى عبر الحصار والضم والدعاية الكاذبة، والمطلوب مواجهته بتحويل المواقف الأخلاقية إلى سياسات عملية: من قرارات النقابات إلى قوانين البلديات ومن مقالات الرأي إلى سياسات دولة. وعلى المدى المتوسط يجب الضغط لعزله سياسيا واقتصاديا وتعليق عضويته في الأمم المتحدة وفرض العقوبات عليه، لأن من يرتكب الإبادة لا يستحق أن يُعامل كدولة طبيعية.
السابع من أكتوبر.. تسريع النهاية
عرت غزة الأوهام، وأظهرت شجاعة الفلسطينيين وضعف الكيان الذي يقصف المستشفيات ليشعر بالأمان. ليست السيناريوهات الأربعة طريقا لانتصار المشروع الصهيوني بل مراحل أفوله. المهمة هي التعجيل بنهايته عبر بناء حركة عالمية تبقي الفلسطينيين على أرضهم، وتعيد بناء حياتهم، وتنهي الحصار، وتحرر الأسرى، وتحاسب المجرمين، وتحاصر منظومة الهيمنة حتى سقوطها.
العدالة ليست منحة بل قيمة عليا، والحرية ليست شعارا بل هدف جوهري، وتقرير المصير ليس وهما بل غاية، والعودة ليست حلما بل حق. حين تُتخذ هذه الحقائق منارة، يصبح الطريق الذي بدا مستحيلا هو الطريق الوحيد المعقول. لقد حمل شعب فلسطين هذه الحقيقة من نكبة إلى أخرى، وها هو العالم أخيرا يبدأ الآن في الإصغاء ورؤية الحقيقة.
الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة.
