
في مشهد يحمل رمزية سياسية بارزة، يدخل الرئيس السوري أحمد الشرع البيت الأبيض كأول رئيس سوري تطأ قدماه هذا المكان، في خطوة تعلن نهاية مرحلة طويلة من العزلة وبدء مرحلة جديدة تعيد دمشق إلى قلب المعادلة الدولية.
فالزيارة لا تقتصر على بعدها البروتوكولي، بل تمثل تحولا استراتيجيا في العلاقات السورية الأميركية، وتعبيرا عن رغبة الطرفين في فتح صفحة جديدة من التعاون السياسي والأمني. فدمشق، التي كانت لعقود عنوانا للعقوبات والقطيعة، تدخل اليوم واشنطن بثقة لاعب يسعى لإعادة تعريف موقعه في الشرق الأوسط.
منذ توليه الحكم، سعى الرئيس أحمد الشرع إلى إعادة صياغة السياسة الخارجية السورية على قاعدة “التوازن عبر التعدد”، أي الانفتاح على القوى الكبرى دون ارتهان لأي طرف. وتأتي زيارته إلى واشنطن بعد لقاءين سابقين مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الأول في الرياض والثاني في نيويورك على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، ليكون اللقاء الثالث في البيت الأبيض تتويجا لمسار من التفاهمات التدريجية بين البلدين.
وكشف المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم براك، أن الزيارة ستتوج بتوقيع وثيقة انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، في خطوة تمنح دمشق شراكة أمنية متقدمة داخل منظومة دولية طالما استبعدت منها. وأشار براك إلى أن “سوريا ترشد الطريق”، في إشارة إلى الثقة الأميركية المتزايدة في الرؤية التي يقودها الرئيس الشرع لبناء دولة موحدة وجيش وطني جامع.
هذه المقاربة تتقاطع مع الرؤية الأميركية لمنطقة أكثر استقرارا وأقل فوضى، حيث تفضل واشنطن دعم الشركاء القادرين على فرض الأمن داخل حدودهم بدلا من التدخل المباشر. وبذلك تصبح الزيارة علامة على تقاطع مصالح جديد بين واشنطن ودمشق واعتراف ضمني بأن استقرار سوريا بات مصلحة مشتركة للطرفين.
تحمل الزيارة كذلك رسائل داخلية؛ فـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) تجد نفسها أمام واقع سياسي جديد، إذ لم تعد واشنطن تنظر إليها ككيان موازٍ للدولة السورية، بل كجزء من مشروع إعادة توحيد الدولة ومؤسساتها. ويبدو أن القيادة السورية تمضي نحو إنهاء التعدد العسكري عبر استيعاب القوى المحلية ضمن مؤسسات الدولة، بما يضمن بناء جيش وطني موحد.
اقتصاديا، تعول دمشق على الزيارة لتخفيف العقوبات، خصوصا “قانون قيصر” الذي شل الاقتصاد وأعاق مشاريع الإعمار. ومن المتوقع أن تكون الملفات الاقتصادية حاضرة بقوة في المحادثات، في ظل رغبة سوريا بجذب الاستثمارات وإعادة دمج اقتصادها في النظام المالي العالمي بدعم أميركي.
أما على الصعيد الإقليمي، فزيارة الشرع إلى واشنطن تثير قلقا إسرائيليا واضحا، إذ ترى تل أبيب في أي مسار يعيد لسوريا قوتها واستقرارها تهديدا لتوازن القوى القائم. ورغم الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة، تواصل دمشق سياسة ضبط النفس وتؤكد أن “السلام خيار استراتيجي، لكن السيادة ليست مادة للتفاوض”.
وتشير تقارير أميركية إلى أن الزيارة قد تمهد لجولة جديدة من المحادثات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب لإعادة تفعيل اتفاق فك الاشتباك الموقّع عام 1973 وتثبيت حدود تمنع التصعيد.
في الداخل، يواجه الرئيس الشرع تحديات إعادة بناء مؤسسات الدولة وتهيئة بيئة آمنة لعودة اللاجئين وإطلاق مشاريع الإعمار، في إطار رؤية وطنية جديدة توازن بين الأمن والانفتاح السياسي.
الزيارة إلى واشنطن تأتي بعد جولة ناجحة في موسكو، ما يعكس نهجا خارجيا متوازنا يقوم على “التنوع في الشراكات والانفتاح من موقع الندية”. فبين واشنطن وموسكو، تسعى دمشق إلى استثمار التباينات الدولية بما يخدم مصالحها الوطنية دون الوقوع في فخ الاصطفاف.
في المحصلة، تمثل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى البيت الأبيض حدثا استثنائيا في مسار السياسة السورية، إذ تفتح الباب أمام عودة دمشق إلى الساحة الدولية كلاعب فاعل بعد سنوات طويلة من الحرب والعزلة، وترسم ملامح سياسة جديدة قائمة على التوازن والانفتاح، تعيد لسوريا مكانتها في قلب الإقليم والعالم.
