زلزال سياسي في بريطانيا

سبت, 10/25/2025 - 14:43

بقلم: جلال الورغي – مدير المركز المغاربي للبحوث والتنمية
يبدو المشهد السياسي في بريطانيا اليوم وكأنه يعيش تحولات عميقة أشبه بزلزال سياسي حقيقي، إن صدقت استطلاعات الرأي الأخيرة التي تشير إلى تغيّر جذري في المزاج العام للناخبين. فالأحزاب التقليدية التي هيمنت على الساحة لعقود تواجه تراجعًا غير مسبوق، في مقابل صعود قوي لليمين المتطرف.
فقد عقدت الأحزاب البريطانية الكبرى مؤتمراتها السنوية المعتادة دون أن تنجح في تغيير اتجاهات الرأي العام. لا حزب العمال الحاكم بقيادة كير ستارمر ولا حزب المحافظين الذي يقود حكومة الظل استطاعا استعادة ثقة الناخبين، الذين باتوا ميّالين نحو حزب “الإصلاح” اليميني المتطرف بزعامة نايجل فاراج.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب “الإصلاح” قد يفوز بنحو 375 مقعدًا في البرلمان إذا جرت الانتخابات اليوم، مقابل خمسة مقاعد فقط يشغلها حاليًا، فيما يتراجع حزب العمال من 411 إلى 90 مقعدًا، وينهار حزب المحافظين إلى المرتبة الرابعة بـ41 مقعدًا فقط.

أزمة قيادة داخل حزب العمال

يواجه حزب العمال أزمة داخلية متفاقمة، إذ بدأ التململ داخل صفوفه ضد زعيمه كير ستارمر الذي يُتهم بالضعف في الأداء والقيادة. ورغم فوزه الساحق قبل عام، تراجعت شعبيته بسرعة قياسية، مع تصاعد الانتقادات بسبب فضائح متتالية داخل حكومته.
فقد أُجبر على إقالة وزيرة الإسكان بعد اتهامها بالتهرب الضريبي، وأقال السفير البريطاني في واشنطن على خلفية علاقاته المشبوهة برجل الأعمال جيفري إبستين، بينما لاحقته شبهات حول تلقيه وزوجته هدايا من أحد اللوردات مقابل امتيازات سياسية.
كما زادت السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومة الوضع سوءًا، إذ ارتفعت معدلات التضخم والغلاء واتسعت دائرة الفقر، ما أدى إلى تآكل القاعدة الشعبية التقليدية للحزب.

ملف الهجرة وتأثير غزة

تحولت قضية الهجرة إلى محور حساس في النقاش السياسي البريطاني، إذ نجح اليمين المتطرف في ربط الأزمة الاقتصادية بالمهاجرين، ما أثّر على الخطاب العام ودفع حزب العمال إلى تبني سياسات متشددة. غير أن هذا التوجه أضرّ بسمعته بين الناخبين من أصول مهاجرة، الذين كانوا يشكلون قاعدة انتخابية تقليدية له، خصوصًا بعد موقف الحكومة المهادن للعدوان الإسرائيلي على غزة.

المحافظون.. حزب فقد بريقه

أما حزب المحافظين، الذي يُعدّ أقدم الأحزاب البريطانية وأكثرها حكمًا للبلاد، فقد بات يعيش مرحلة انهيار سياسي.
زعيمته الجديدة كيمي بادينوك، ذات الأصول النيجيرية، لم تنجح في إقناع الناخبين أو حتى داخل حزبها، الذي استبدل زعماءه ست مرات خلال سنوات قليلة. وتُظهر الاستطلاعات أن الحزب سيتراجع من 114 مقعدًا إلى 41 فقط، في أسوأ نتيجة بتاريخه.
ويُعزى هذا الانهيار إلى إرث “البريكست” الذي ترك بريطانيا في عزلة دولية وأزمة اقتصادية خانقة، وإلى فشل الحزب في تقديم حلول جادة لمشكلة الهجرة رغم خطابه اليميني المتشدد.

نايجل فاراج وصعود اليمين المتطرف

يستغل نايجل فاراج، زعيم حزب “الإصلاح”، هذا الفراغ السياسي باقتدار. فقد عاد إلى الواجهة بعد خفوت نجمه عقب “البريكست”، مدعومًا بعلاقاته الوثيقة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب وعدد من الشخصيات اليمينية المتطرفة في أوروبا.
ينجح فاراج اليوم في استقطاب آلاف الأنصار، بمن فيهم نواب سابقون من المحافظين، ويقدّم نفسه باعتباره البديل “الحقيقي” عن الأحزاب التقليدية المنهارة.

مشهد سياسي جديد

تبدو بريطانيا مقبلة على مرحلة سياسية غير مسبوقة، قد تكون عنوانًا لنهاية عهد الأحزاب التقليدية وصعود قوى جديدة تتغذى على الشعبوية والخطاب القومي المتطرف.
ومع عزلة ما بعد “البريكست” واشتداد الأزمة المعيشية، تبدو البلاد أكثر هشاشة أمام رياح اليمين المتطرف، في ظل دعم واضح من بعض الدوائر الأميركية لهذه التيارات.
إنه زلزال سياسي بكل المقاييس، قد يعيد رسم ملامح بريطانيا الحديثة، ويضع ديمقراطيتها العريقة أمام اختبار غير مسبوق.