
د. جمال قاسم – متخصص في دراسات الشرق الأوسط والعلوم السياسية بجامعة غراند فالي ستيت (الولايات المتحدة)
أخيراً، وضعت الحرب في غزة أوزارها – رغم الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة – بعد ضمانات دولية بعدم عودتها مجدداً، تلبيةً لأحد أبرز مطالب حركة حماس خلال مفاوضات وقف إطلاق النار السابقة، التي شهدت آنذاك إطلاق عدد من الأسرى الإسرائيليين.
جاء وقف القتال بمبادرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وضع إطاراً زمنياً لإطلاق الأسرى الأحياء وإعادة جثامين القتلى ووقف العمليات العسكرية. وقد تجاوبت حماس مع المبادرة، وبدأت عملية إعادة الجثامين رغم الصعوبات الميدانية الناجمة عن الدمار الهائل في القطاع وضعف الإمكانات.
لكن السؤال الجوهري هو: لماذا قرر ترامب إيقاف الحرب الآن وليس منذ توليه الرئاسة في يناير الماضي؟
أسلوب ترامب في التفاوض
لفهم قرار ترامب، لا بد من النظر إلى طبيعته الشخصية وأسلوبه في التفاوض. فهو ليس رئيساً تقليدياً يعتمد على مستشاريه، بل رجل صفقات جاء من عالم الأعمال والعقارات، حيث صنع اسمه بعقد الصفقات الكبرى، ونقل هذا النهج إلى السياسة الخارجية.
يُعرف ترامب بحبه لعقد الصفقات المباشرة، وقد أظهر ذلك في تفاوضه مع طالبان بشأن الانسحاب من أفغانستان. وإذا شعر بعدم جدوى المفاوضات أو تشدد الطرف الآخر، فإنه لا يتردد في الانسحاب. كما يستخدم أسلوب رفع سقف المطالب للضغط، كما فعل حين طرح فكرة “ترحيل سكان غزة وتحويلها إلى منطقة سياحية أميركية”، وهو مقترح قوبل برفض عربي وفلسطيني واسع.
الضغوط الإقليمية والدولية
جاءت مبادرة ترامب أيضاً في ظل ضغوط دولية متصاعدة على إسرائيل بسبب الكارثة الإنسانية في غزة، واعتراف عدد من الدول الغربية – منها بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا – بدولة فلسطين، إلى جانب استهداف إسرائيل قيادات من حماس في قطر، وهو ما عجل بالتوصل إلى صفقة وقف النار.
كما أن ترامب يواجه قاعدة انتخابية ترفض الحروب الطويلة، وتؤيد تركيز الجهود على الداخل الأميركي تحت شعار “أميركا أولاً”، وهو ما يفسر تجنبه الدخول في مواجهات مفتوحة، والاكتفاء بضربات محدودة ضد الحوثيين أو المنشآت الإيرانية دون الانجرار لحرب شاملة.
ترامب وعلاقاته الشخصية
يُعرف ترامب باتخاذ قراراته الحاسمة بناء على العلاقات الشخصية، لا الحسابات الدبلوماسية التقليدية. فقد قرر رفع العقوبات عن سوريا بعد لقاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض، في خطوة فاجأت حتى مستشاريه.
كما ضغط ترامب شخصياً على نتنياهو للاعتذار لقطر عن حادثة الهجوم الإسرائيلي الذي أودى بحياة أحد المواطنين القطريين، ثم أصدر قراراً تنفيذياً برفع مستوى التعاون الأمني مع الدوحة، مؤكداً أن الولايات المتحدة ستدافع عنها ضد أي اعتداء.
وتشير تقارير أميركية إلى أن ترامب شعر بأن إسرائيل “خرجت عن السيطرة”، وهو ما دفعه للتدخل الحاسم لوقف الحرب، مدفوعاً أيضاً بعلاقاته الجيدة مع قادة الخليج، الذين تمكنوا من التأثير إيجابياً في قراراته أكثر من حلفائه الأوروبيين.
الرجل الذي ضغط على إسرائيل
يُعد ترامب – كما وصفه بعض القادة الأوروبيين – أقوى رئيس أميركي منذ عهد أيزنهاور في ممارسة الضغط على إسرائيل. فهو الوحيد الذي تمكن من إقناع نتنياهو بإنهاء الحرب والإفراج عن الأسرى. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل سيستثمر ترامب هذا النفوذ لإطلاق عملية سلام شاملة تفضي إلى قيام دولة فلسطينية؟
يملك ترامب القدرة على ذلك، لكنه لم يبلور بعد القناعة السياسية الكاملة بأن قيام دولة فلسطين يمثل مصلحة أميركية وإستراتيجية للمنطقة. وحتى تتشكل هذه القناعة، سيبقى وقف الحرب في غزة مجرد صفقة أخرى في سجل “رجل الصفقات” دون أن يتحول إلى سلام دائم.
