
بقلم: فارس الخطاب – أكاديمي ومحلل سياسي وخبير في الشأن العراقي (لندن)
من المقرر أن تُجرى الانتخابات التشريعية المقبلة في العراق يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، بمشاركة 7768 مرشحاً يتنافسون على 329 مقعداً في مجلس النواب، خُصص منها تسعة مقاعد لممثلي الأقليات الدينية والقومية من مسيحيين وإيزيديين وشبك ومندائيين وأكراد فيليين.
ورغم أن الصورة الرسمية تبدو منفتحة ومتوازنة، فإن الواقع العراقي أكثر تعقيداً، إذ تبقى التحديات الحقيقية كامنة في عزوف الناخبين وفقدان الثقة في الطبقة السياسية بسبب تراكم الفشل والفساد وضعف الأداء الحكومي.
الشرعية على المحك
انخفاض نسبة المشاركة لن يكون مجرد رقم، بل حكماً ضمنياً على شرعية العملية السياسية برمتها، في وقت يتزايد فيه وعي الشارع العراقي ويضيق ذرعاً بآليات الحكم التقليدية التي لم تنتج إصلاحاً حقيقياً.
ويرى محللون أن العراق مهدد بتكرار “إخفاقات الممارسة الديمقراطية”، إذ تظل السلطة الحقيقية غالباً بيد سماسرة النفوذ الطائفي وشبكات المصالح والمليشيات، رغم محاولات المفوضية العليا للانتخابات إظهار توازن شكلي بين القوى المتنافسة.
النفوذ الإيراني والحسابات الأميركية
الانتخابات المقبلة ليست شأناً عراقياً صرفاً، بل تتقاطع فيها حسابات خارجية مؤثرة.
فالولايات المتحدة تبحث عن استقرار دون انتصار، وتسعى إلى منع عودة تنظيم الدولة وتفادي سيطرة كاملة لطهران على بغداد، بينما تستخدم أدوات الضغط المالي والدبلوماسي لتوجيه المشهد السياسي.
أما إيران، فتعتمد نهجاً أكثر هدوءاً، حيث تعمل على ترسيخ نفوذها داخل مؤسسات الدولة بدلاً من المواجهة العلنية، مستفيدة من الروابط الاقتصادية وشبكات الولاء السياسي والمليشيات كأداة توازن وضغط عند الحاجة.
الأدوار الإقليمية الأخرى
تركيا تركز على أمن الحدود وملاحقة حزب العمال الكردستاني، وتربط مصالحها مع بغداد بملفات المياه والطاقة والربط البري نحو المتوسط.
الخليج العربي يتعامل مع العراق ببراغماتية متصاعدة، عبر مشروعات ربط كهربائي واستثمارات في البنية التحتية والطاقة المتجددة، في محاولة لبناء شراكة عربية أكثر توازناً دون ارتهان سياسي.
المليشيات بين الاحتواء والانفلات
تمثل المليشيات أحد أعقد الملفات في المشهد العراقي، إذ تجمع بين القوة العسكرية والاقتصاد الموازي والنفوذ الاجتماعي.
وتقف الآن أمام خيارين:
الاندماج المشروط داخل مؤسسات الدولة مقابل ضمانات سياسية واقتصادية.
الافتكاك والتصعيد إذا شعرت بتراجع نفوذها، ما قد يؤدي إلى موجات عنف واضطراب اقتصادي جديد.
السوداني بين ولايتين
رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يسعى لولاية ثانية، مستنداً إلى خطاب إصلاحي ووعود بالخدمات وتحسين معيشة المواطن. غير أن نجاحه يتوقف على ضبط السلاح المنفلت، وتحقيق توازن بين علاقاته بطهران وواشنطن من جهة، والعواصم العربية من جهة أخرى.
سيناريوهات ما بعد النتائج
ترسيخ الوضع القائم: إعادة توزيع طفيفة للمقاعد واستمرار حكومة التوافق الواسع.
توازن جديد: صعود تيارات إصلاحية تفرض رقابة على المال والسلاح، وبداية اندماج تدريجي للمليشيات.
اهتزاز أمني وسياسي: مشاركة ضعيفة وصراع على رئاسة الحكومة، ما يفتح الباب لتدخل خارجي مباشر لضبط الإيقاع.
ما بعد الصناديق
الانتخابات في العراق تبقى مرآة للواقع أكثر من كونها محركاً للتغيير. فـلا دولة بلا توازن داخلي، ولا توازن بلا عقد اجتماعي، ولا عقد بلا عدالة في السلطة والثروة والسلاح.
قد تُفرز الصناديق برلماناً جديداً، لكن السؤال الأهم: من سيحكم ما بعد النتائج؟
إذا نجح العراقيون في ترسيخ معادلة “سلاح واحد، مال مراقَب، ومصالح منفتحة مع الجوار”، فستكون الانتخابات بداية لمرحلة استقرار. أما إذا تعثّر هذا المسار، فستبقى الدولة معلقة بين النص والظل؛ تُكتب القوانين في الجريدة الرسمية، وتُدار السلطة في مكان آخر.
