
تعكس مشاهد التفاعل الأوروبي التضامني النوعي، على الصُعد السياسية والشعبية والإعلامية والإنسانية، مع القضية الفلسطينية، حجم النقلة الهائلة مقارنة بما كان عليه الحال قبل عامين، إبان اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة وارتكاب جرائم إبادة وثقتها عدسات الإعلام لحظة بلحظة.
وقد باتت مظاهر التضامن هذه تتسم بالجدية والوضوح في المطالب على المستويين الرسمي والشعبي.
فبحسب المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام، بلغ عدد المظاهرات الداعمة لفلسطين خلال العامين الماضيين أكثر من 45 ألف مظاهرة في نحو 800 مدينة أوروبية موزعة على 25 دولة، في حين يرتفع العدد إلى 50 ألف مظاهرة عند إضافة الفعاليات في المملكة المتحدة.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب وحدها، شهدت أوروبا نحو 6 آلاف مظاهرة في 400 مدينة داخل 15 دولة، ما يعكس تصاعد الزخم الشعبي واتساع رقعة التعاطف مع القضية الفلسطينية.
وفي مشاهد لافتة، خرجت مسيرات ضخمة في العواصم الغربية، منها أكثر من 100 ألف متظاهر في برلين، و250 ألفًا في روما، ونصف مليون في مدريد، بينما شهدت العاصمة الهولندية واحدة من أكبر المسيرات الأوروبية المؤيدة لفلسطين.
كما برزت مبادرة أسطول الصمود العالمي التي شارك فيها متضامنون أوروبيون بالإبحار نحو غزة لكسر الحصار، رغم المخاطر التي تصل إلى حد الموت، ما أثار موجة من الغضب الشعبي بعد الاعتداء الإسرائيلي على السفن المشاركة.
وفي إيطاليا، شهدت البلاد إضرابين تاريخيين نظمتهما النقابات يومي 22 سبتمبر و3 أكتوبر، شارك فيهما أكثر من 6 ملايين شخص تضامنًا مع فلسطين واحتجاجًا على الجرائم في غزة.
أما في إسبانيا، فقد أعلن نادي أتلتيك بلباو تضامنه الرسمي مع فلسطين في الذكرى 125 لتأسيسه، في بادرة رمزية قد تلهم أندية أوروبية أخرى.
هذا الزخم الشعبي الواسع انعكس بدوره على المواقف السياسية للدول الأوروبية، إذ اعترفت دول عديدة بدولة فلسطين، مثل إسبانيا وأيرلندا، كما سحبتا سفيريهما من تل أبيب.
كذلك تبنت فرنسا وبريطانيا وألمانيا مواقف جديدة تضمنت فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين ومنع تصدير قطع السلاح لجيش الاحتلال.
ويرى مراقبون أن التحول في الموقف الأوروبي يعود إلى عدة عوامل، منها هشاشة بعض الحكومات التي تواجه ضغوطًا داخلية، كما هو الحال في فرنسا، حيث صعد حزب "فرنسا الأبية" الداعم لفلسطين إلى صدارة المعارضة، ما أضعف موقف الرئيس ماكرون ودفعه نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ويُرجع كثيرون هذا التحول أيضًا إلى بشاعة المجازر الإسرائيلية التي هزت الضمير العالمي، وفضحتها وسائل الإعلام، حيث طالت آلة الحرب الإسرائيلية كل جوانب الحياة في غزة دون تمييز، وأدت إلى مقتل عشرات الآلاف، وتجويع الأطفال، وحرق المدنيين أحياء.
وقد لعب الصحفيون الغزيون دورًا محوريًا في نقل المأساة، حيث استشهد أكثر من 250 صحفيًا وصحفية أثناء تغطيتهم للأحداث، ما أسهم في تشكيل الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية.
في المقابل، ساهم عجز الاحتلال عن تحقيق أهدافه العسكرية، وأداء المقاومة الفلسطينية الميداني، في تقويض السردية الإسرائيلية وتعزيز مكانة القضية الفلسطينية في الوعي الأوروبي.
ومع طول أمد الحرب، تغلغلت الرواية الفلسطينية في الإعلام والمجتمعات الغربية، ما أدى إلى عزلة غير مسبوقة لإسرائيل.
وإلى جانب النشاط الميداني، لعبت وسائل الإعلام الجديد ومؤثرون عالميون – من أبرزهم صانعة المحتوى “مس راشيل” – دورًا مهمًا في إيصال معاناة الفلسطينيين إلى جمهور واسع من مختلف الفئات العمرية.
كل ذلك جعل من أوروبا اليوم أكبر ساحة تضامن مع فلسطين في العالم، وأفرز حركة وعي جماهيري عابرة للحدود، تشارك فيها النقابات، والجامعات، والمبدعون، والعمال، والمثقفون.
ورغم هذا الزخم، يطرح الواقع سؤالًا جوهريًا: هل يمكن استدامة هذا الدعم بعد توقف العدوان؟
يرى الكاتب أن ما حدث في غزة من جرائم إبادة وتطهير عرقي وتهجير – ذهب ضحيته أكثر من ربع مليون إنسان بين شهيد وجريح ومفقود – لن يُمحى بسهولة من الذاكرة العالمية، لكن الحفاظ على هذا الزخم يتطلب خطة فلسطينية متكاملة تستثمر هذا الدعم وتترجمه إلى فعل سياسي منظم.
ويختم الكاتب بالتأكيد على أن الحالة الفلسطينية الراهنة بحاجة إلى إصلاح داخلي شامل يقود إلى تجديد القيادة عبر انتخابات ديمقراطية، وتوحيد الصفوف خلف قيادة وطنية قادرة على استثمار التضامن العالمي، محذرًا من أن غياب هذه الخطوة قد يؤدي إلى اتفاق أوسلو جديد يعيد إنتاج المأزق السياسي الحالي.