
ما الذي تغيّر حقاً في هذه المنطقة منذ اتفاقات كامب ديفيد وحتى اليوم؟ قد يبدو السؤال بسيطًا، لكن الإجابة تكشف عمق المأزق: فالمشروع الصهيوني لم يتخلَّ عن لغته الأولى، وكل الكلام عن «مشروع السلام» أو «حل الدولتين» أو «الانخراط البناء» ظلَّ في أحسن حالاته غطاءً دبلوماسياً أو مناورة زمنية، تخفي قواعد ثابتة لعقل استراتيجي يرى في القوة لغةً وحيدة مفهومة في الإقليم، وأن السياسة لا تُدار على طاولة مستديرة بقدر ما تُفرض من فم المدفع.
القادة العرب يدركون هذا الواقع؛ يعلمون أن تل أبيب لم تتصرف على أساس «الأرض مقابل السلام»، وأن «حل الدولتين» استُخدم كثيرًا كأداة علاقات عامة لتأجيل الاستحقاقات وتثبيت وقائع على الأرض. ومع ذلك، راهن جزء كبير من النظام العربي على طمأنة لفظية ووساطة أميركية وخطوط حمراء افتراضية لم يكن لها وجود عملي. هكذا انتقلنا تدريجيًا من «سلام مشروط بالانسحاب» إلى «سلام بلا شروط»، ثم إلى «سلام» يعني ضمنيًا الخضوع لترتيبات القوة.
المشهد الممتد من غزة إلى الدوحة ليس مجرد سلسلة أحداث منفصلة، بل اختبار لطريقة قراءتنا للواقع. الخريطة في المخيال الإسرائيلي تتسع دائمًا للتعامل مع دول المنطقة كفضاء قابلًا لإعادة التشكيل كلما تيسّر الظرف. من لم يدرك هذا التحول لم يفهم طبيعة إسرائيل اليوم؛ إذ بات الحق مقاسًا بمدى وصول الطائرات والصواريخ. ومن استطاع كبحها فليفعل، ومن لم يستطع فعليه أن يتأقلم.
أما من يظنّ أن هذا انحراف أخلاقي مؤقت لحكومة متشددة فحسب، فتعوده نصوص المؤسسين ومتون الأيديولوجيا الصهيونية لتكشف عُمقًا أكبر: رؤية بنيوية تقدم «الاستثناء اليهودي» كحقيقة فوق سياسية. من زئيف جابوتنسكي ونظرية «الجدار الحديدي» التي تبنّى خيار القوة الساحقة، إلى ديفيد بن غوريون الذي عدّ القبول بالتقسيم تكتيكًا مرحليًا في طريق الاستحواذ الكامل؛ ومن الحاخام تسفي كوك الذي قدّس «أرض إسرائيل» المتخيلة، إلى جيل اليوم الذي ترعرع على فكرة أن التوسع هو مصير واجب تحقيقه—كل ذلك تحوّل من خطاب إلى سياسة ميدانية.
هذه الرؤى التوسعية لم تعد حبيسة الكتب والكنس، بل تحوّلت إلى سياسات فعلية على الأرض، مع تراكم تفوق عسكري وتكنولوجي واستثماره في هشاشة الجوار الإقليمي. نتنياهو، على سبيل المثال، يتحدث بصراحة عن «إسرائيل الكبرى» وتوسيع «العمق الأمني»، ويتعامل مع مفاهيم جغرافية وسياسية لا تبتعد عن منطق الفضاء الحيوي والاستحواذ. ومن هذا المنطلق تُدار ضربات متكررة في سوريا ولبنان واليمن، وتُمارس سياسات قضم تدريجي في الضفة والقدس، بينما تتحوّل عمليات التهجير والتجويع إلى إجراءات إدارية ولوجيستية في غزة.
أساس قوة إسرائيل اليوم يقوم على مزيج من التفوق التقني والعسكري، ومرونة دبلوماسية خارجيًا مع تصلب أيديولوجي داخلي، وشبكات مصالح تربطها بالغرب، خصوصًا بالولايات المتحدة. ولا يعني ذلك أنها قدّاسة لا تُقهَر، بل إن مواطن الضعف البنيوي في المشروع الصهيوني تكمن في تناقضاته: مشروع توسعي استعماري يستند إلى عقيدة دينية لا تقبل التنازل، ودولة تريد أن تكون «طبيعية» وفي الوقت نفسه «استثنائية». هذا التناقض يمكن أن يُستغل، لكن ليس دون بناء قوة مقابلة قادرة على إعادة تعريف تكلفة الاعتداء.
لكن بناء هذه القوة يبدأ بالاعتراف بأن البيئة العربية تعاني خللاً بنيويًا عميقًا. الدولة الوطنية الحديثة ورثت بيروقراطية مُستنزِفة، وفشلت في خلق منظومة تعليم تُعزّز التفكير النقدي، وتَعثّرت المؤسسات الدينية والسياسية في تجديد خطابها. وانضافت إلى ذلك الطائفية والعشائرية وأزمات الإعلام، وفشل كثير من المناضلات والنخب في إنتاج بدائل سياسية ناضجة. كل ذلك جعل المسرح الإقليمي قابلاً للاختراق والاستثمار من قِبَل قوى خارجية وإقليمية معادية لمشروع النهضة.
الردّ على هذا التحدي لا يكون بالاستنكار الأخلاقي وحده، ولا بالاعتماد على القانون الدولي المُنهك من حالات الاستثناء، بل ببناء استجابة عملية على مقياس التحدي. ثمة ثلاث خطوات أساسية:
أولًا: الاعتراف بأن التناقض الرئيس ليس مع «الإسلام السياسي» أو خلافات طائفية صرفًا، بل مع مشروع توسعي يحاول إعادة تشكيل الإقليم. ثانيًا: إدراك أن الولايات المتحدة ليست وسيطًا محايدًا دائمًا، بل لها مصالحها التي ترتبط بوظائف إسرائيل في هندسة المنطقة. ثالثًا: رفض «التطبيع الإذعاني» كحلّ؛ إذ إن ترتيبات «أبراهامية» تُقَدَّم أحيانًا كبديل سهل لعملية سلام حقيقية لكنها في جوهرها هندسة إذعان تؤجل جوهر الصراع.
الاستجابة تتطلب وحدة وظيفية تُحيّد التناقضات الثانوية وتجمع حول نقاط القوة المشتركة، واستقلالية تُحرّر القرار الوطني من تبعيات مفرطة، وحشدًا يستثمر الطاقات في مشروع مواجهة شامل يتجاوز رد الفعل إلى المبادرة. هذا يعني إصلاحات جذرية في التعليم والبحث العلمي ووسائل الإعلام والخطاب الديني والسياسي، وإطلاق المجال السياسي وربط الشرعية بأدوات المشاركة الحقيقية، وبناء اقتصاد إقليمي متكامل يسند قوةً سياسية وعسكرية.
لا يكفي أن نحلم بوحدة رمزية؛ المطلوب إعادة تأسيس مؤسسات إقليمية قادرة على اتخاذ قرارات ملزمة، وإعادة إحياء معاهدات دفاعية والتعاون مع قوى إقليمية ذات مصلحة في استقرار الإقليم. كما يتطلب الأمر بناء قدرات دفاعية متدرجة، تنوع مصادر التسليح، وبيئة صناعية دفاعية تحت حوكمة مدنية، لضمان استقلال القرار الأمني.
وأخيرًا، لا بد من مخاطبة الرأي العام العالمي بذكاء: استثمار الزخم الدولي المتعاطف مع الحق الفلسطيني، وبناء تحالفات مع جماعات مدنية وحقوقية داخل الغرب، ومع يهود ناقدين للصهيونية، وبعرض حجج قانونية وأخلاقية تقطع الطريق على روايات الشرعية المزيفة. المقاومة، ضمن هذا السياق، يجب أن تُدرَك كجزء من دينامية مقاومة احتلال، تستحق الاعتراف والدعم السياسي والمعنوي ضمن قواعد واضحة لحماية المدنيين واحترام القانون الإنساني.
الفرصة ما تزال قائمة، لكن الوقت يَضيق. تجربة غزة أظهرت أن إخضاع الشعوب ليس قدرًا محتمًا، وأن المقاومة قادرة على كشف ثغرات بنيوية في خصمٍ متفوق. لكن دون ظهير إقليمي فاعل واستراتيجية تقطع دابر التفتيت، يتحوّل الانتصار الجزئي إلى استنزاف طويل يمنح إسرائيل مزيدًا من الوقت لاستكمال أهدافها.
إن بديل تردّدنا هو الاستسلام الزمني: منح المشروع الصهيوني الوقت والشرعية لإقامة هندسة التفتيت. أما الخيار الآخر فهو إعادة صوغ عقلنا السياسي، وبناء دولة عادلة تُمكّن مجتمعاتها من تحويل التنوع إلى مصدر قوة، وتحرّر القرار من التبعية، وتعيد للمقاومة شرعيتها كصمام دفاع عن عمقٍ حضاري وتاريخي. الفوز هنا يبدأ بقرار وطني وإرادة جماعية لا تساوم على الحقوق، ثم بخطوات عملية مدروسة تعيد لموازين القوة وجهتها.