التطهير الروسي.. كيف تغير بوتين بعد تمرد فاغنر؟

سبت, 07/12/2025 - 22:15

في 24 يونيو 2023، شهدت روسيا لحظة فارقة في سياق حربها المستمرة مع أوكرانيا، حين تمردت مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة، بقيادة زعيمها يفغيني بريغوجين، في تحدٍ مباشر للسلطة المركزية. سيطرت فاغنر أولًا على مدينة روستوف، ثم تقدمت نحو موسكو، حتى باتت على بُعد ساعات من العاصمة، ما أثار مخاوف من انقلاب أو حرب أهلية.

بحسب رواية فاغنر، لم يكن التمرد سعيًا للسلطة، بل احتجاجًا على قادة الجيش الذين اتهمتهم بحرمان مقاتليها من العتاد، وعرقلة تحركاتهم، بل وحتى قصف مواقعهم في أوكرانيا.

لكن سرعان ما تراجعت فاغنر، وأُعلن عن اتفاق بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، نصّ على إسقاط التهم عن بريغوجين ومنحه اللجوء في بيلاروسيا. وقد وصف بريغوجين الحدث بأنه "مسيرة احتجاجية" لا انقلابًا، موجهة ضد القادة العسكريين لا ضد الرئيس بوتين.

المؤرخ العسكري ألكسندر بيرنز رأى في تمرد فاغنر تكرارًا لاحتجاجات العصور الوسطى، التي كانت تستهدف "الحاشية الفاسدة" لا الملك نفسه. وشبّه ما جرى بثورة الفلاحين في إنجلترا عام 1536، حين وعد الملك الثائرين بالعفو، ثم أعدم قادتهم بعد انفضاض التمرد. وبعد شهرين من تمرد فاغنر، سقطت طائرة تقل بريغوجين وعددًا من مساعديه، ليُطوى فصل التمرد بهذه النهاية الغامضة.

فاغنر بعد بريغوجين
لم يكن مقتل بريغوجين نهاية تمرد فحسب، بل بداية لإعادة هيكلة دقيقة للنفوذ العسكري غير الرسمي داخل روسيا. تم دمج مقاتلي فاغنر في وزارة الدفاع الروسية، كما أُدمجت وحدات مشاة منها في الحرس الوطني.

لكن في أفريقيا، ظلت فاغنر حاضرة بقوة، ضمن تفاهم غير معلن بين بريغوجين وبوتين، ينص على تركيز عمليات المجموعة في القارة. نشاطها هناك اتخذ طابعًا مزدوجًا: تأمين الموارد لموسكو، ودعم الأنظمة الحليفة.

أكدت مصادر لـ"بي بي سي" أن نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكوروف، قاد جولات دبلوماسية بعد مقتل بريغوجين لتثبيت النفوذ الروسي. ووفق المعهد البولندي للشؤون الدولية، لم يتراجع نفوذ موسكو في أفريقيا، بل ازداد.

أما صحيفة "ذي إيكونوميست"، فأشارت إلى أن فاغنر في أفريقيا لا تزال تعمل بهياكلها القديمة، وتحت إشراف نجل بريغوجين، رغم إعلان موسكو استبدالها بـ"فيلق أفريقيا".

وتُخطط المجموعة لتطوير قاعدة عسكرية في جمهورية أفريقيا الوسطى، تستوعب 10 آلاف جندي بحلول 2030، ما يجعلها مركزًا رئيسيًا للعمليات الروسية هناك. كما أن دورها تطور ليشمل المهام الدبلوماسية، في ظل خضوعها اليوم لإشراف مباشر من الكرملين.

ما الذي تغيّر في نظام بوتين؟
رأى مركز كارنيغي أن تمرد فاغنر كشف خللًا عميقًا في إدارة الدولة الروسية. فبوتين، المعروف بقبضته الحديدية، أظهر ترددًا في حسم الخلاف بين فاغنر ووزارة الدفاع، ما سمح للصراع بالتمدد.

لكن بعد عامين، بدا أن الرئيس الروسي استفاد من التجربة. فقد بدأ في فرض رقابة صارمة على مراكز النفوذ داخل النظام، وأجرى تغييرات جذرية في البنية الأمنية والعسكرية.

ففي عام 2024، أقال بوتين وزير الدفاع سيرغي شويغو، وعيّن مكانه الخبير الاقتصادي أندريه بيلوسوف، في خطوة فسّرها البعض على أنها تحجيم للكاريزما العسكرية لصالح الولاء والتكنوقراطية.

وفق مجلة "فورين أفيرز"، شكّل التمرد لحظة وعي جديدة لبوتين، جعلته يدرك أن الخطر الحقيقي يأتي من النخبة، لا من الشارع. ومنذ ذلك الحين، أطلق سلسلة من التعديلات داخل مؤسسات الدولة، شملت إقالة مسؤولين، ودمج محاربين قدامى موالين في مفاصل النظام.

وفي عام 2024، شملت الإجراءات اعتقال سبعة جنرالات، وتأميم شركات كبرى بقيمة نحو 30 مليار دولار، من بينها مؤسسات صناعية وتجارية ومرافق حيوية مثل مطار دوموديدوفو. كما طالت الحملة الملياردير فاديم موشكوفيتش، أحد أبرز رجال الأعمال في البلاد.

وبحسب "فورين أفيرز"، فإن هذه السياسات تعبّر عن توجّه متزايد نحو "اشتراكية وطنية" بنكهة بوتينية، تُركّز الثروة في يد الدولة وتُقصي أصحاب النفوذ المالي.

دروس التمرد: مركزية السلطة وضبط النخبة
يمثل تمرد فاغنر حالة استثنائية في النظام الروسي، فقد امتلك بريغوجين نفوذًا غير مسبوق بفضل ثقته المطلقة من بوتين، وفعالية مجموعته في جبهات أوكرانيا.

لكن التجربة علّمت بوتين أن الولاء الشخصي لا يكفي، وأن تجميع السلطات بيد شخص واحد يشكّل خطرًا على استقرار الدولة. لذا، بدأ بعد التمرد بإعادة هندسة النظام من الداخل، وتقليص هوامش النفوذ المستقل.

وبينما يصف البعض هذه المرحلة بأنها "البوتينية المتوحشة"، نتيجة تصاعد القمع وتقييد الحريات، فإن ما يبدو واضحًا أن بوتين خرج من الأزمة أكثر حذرًا، وأكثر تركيزًا على إدارة النخبة من الداخل.

لقد ساعده التمرد، رغم مخاطره، في اكتشاف مكامن الخلل، ما دفعه إلى ضبط الدولة بطريقة أكثر صرامة، أقل تساهلًا مع الفوضى، وأكثر اعتمادًا على الولاء والانضباط.
تامصدر : الجزيرة نت

الفيديو

تابعونا على الفيس