
المنظمة المسماة «مجلس أوروبا»، CoE، تتخذ من مدينة ستراسبورغ الفرنسية مقرّاً لها، وتزعم أنّ هدفها الأبرز هو حماية حقوق الإنسان والديمقراطية؛ وتتفاخر بـ«منجزات» في ميادين إلغاء عقوبة الإعدام، والنضال ضدّ العنصرية والتمييز العنصري، وتعزيز حرية التعبير، والمساواة الجندرية، وحماية حقوق الطفل، والدفاع عن التنوّع الثقافي، ومراقبة الانتخابات، والتثقيف حول حقوق الإنسان والديمقراطية، والمساواة في الدواء والعلاج الصحي.
وماذا أيضاً، أو بالأحرى ما الذي يتبقى من «مبادئ سامية» تبرهن أنّ هذه المنظمة هي الأرفع والأجدر على مستوى القارة الأوروبية، وربما العالم بأسره؟ يتبقى معيار المصداقية، بالطبع، وما إذا كانت المكاييل التي تعتمدها في معالجة الملفات متساوية وعادلة وديمقراطية، وأنها لا تكيل بمكيال في الاجتياح الروسي لأوكرانيا وتُغفله تماماً في حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ في أحدث الأمثلة، وأشدّها فضحاً لمكوّنات التكاذب والنفاق والمخادعة التي تحكم عمل المنظمة.
وكان هذا المجلس قد استقر مؤخراً على تنظيم محكمة خاصة يُساق إليها عدد من كبار المسؤولين الروس، وفي طليعتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة مستحدثة هي «جريمة العدوان» على أوكرانيا؛ بالنظر، أساساً، إلى أنّ روسيا ليست منضوية في إطار «محكمة الجنايات الدولية». وكانت الفكرة قد انطلقت من مقال نشره في صحيفة «فايننشال تايمز» القانوني الفرنسي ـ البريطاني فيليب ساند بعد أيام قليلة أعقبت اجتياح أوكرانيا، فتحمس لها كبار الساسة في أوروبا والولايات المتحدة؛ وتوجب أن «تُطبخ» على نار أكثر من هادئة، إلى أن تبلورت أخيراً.
التطبيق على الأرض مسألة أخرى بالطبع، دونها خرط الكثير من قتاد السجالات حول تعريف العدوان بوصف جريمة أساساً، وكيف يتمّ تمييزه عن جرائم أخرى يعرّفها القانون الدولي مثل جريمة الحرب والجريمة بحق الإنسانية وسواها. أو، أيضاً، معايير تمييز هذه المحكمة عن أشغال محاكم مثل «العدل الدولية» و«الجنائية الدولية»، أو محاكمات كمبوديا ويوغوسلافيا السابقة ورواندا، أو حتى تلك التي عُقدت في نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي المقابل فإنّ المسألة الأكثر إشكالية، وإلحاحاً بالمعاني القانونية والأخلاقية في واقع الأمر، هي ما إذا كانت محاكمة بوتين ستشكل سابقة قانونية راسخة يمكن الاعتماد عليها بصدد نماذج أخرى من العدوان، خاصة تلك التي تجمع بين الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتجويع والتهجير، كما يفعل جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة منذ أكثر من 600 يوم؟ الإجابة بالنفي، غنيّ عن القول، وزائر موقع منظمة «مجلس أوروبا» لن يجد ما يشفي غليله في الحدود الدنيا؛ سواء لجهة توصيف العدوان الإسرائيلي تحت أيّ مسمى، أو التلميح إلى إمكانية محاكمة رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على أيّ نحو.
الإطار الأوسع في قراءة هذه الحال، المنتظَرة أصلاً من جهة كهذه، تبيح العودة إلى جذور المأزق الدائم الذي يعاني منه مفهوم حقوق الإنسان في تفسيراته الأممية المختلفة، والمشكلات البنيوية الأعمق التي تنسحب على تعريف مصطلحات مثل «الإبادة» و«الإبادة الجماعية»، فما بلك بـ«الاجتياح» و«العدوان». فالنصّ الذي صوتت عليه الأمم المتحدة في قصر شايو، من ضواحي باريس، مطلع كانون الأول (ديسمبر) 1948، مهّد الكثير من الدروب المتعرجة أمام اعتصار تعريف تطبيقي فعلي لمفهوم «الشرعة الدولية»، وأٌقام بالتالي بوابات عريضة تسللت من خلالها ممارسات الإفلات من العقاب.
وبذاك فإنّ إصرار نتنياهو على متابعة جرائم الحرب والإبادة في قطاع غزّة، واستمرار تمتّعه بالإفلات من التوقيف في دول مثل هنغاريا وفرنسا ملتزمة بمذكرات «العدل الدولية»، وإغفال أية إشارة إلى مساواته مع بوتين في الاجتياح والعدوان (على لبنان وسوريا واليمن وإيران، أيضاً وأيضاً)؛ هو بعض أشنع أنساق تكاذب منظمة «مجلس أوروبا»، سرّاً وعلانية في الواقع.