هل تنجح أفريقيا في التحرر من هيمنة الدولار؟ محمد زكريا فضل

أحد, 06/01/2025 - 13:41

في ليلة باردة من ليالي شتاء جوهانسبرغ، أغسطس 2023، صعد الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا إلى المنصة في القمة الخامسة عشرة لمجموعة البريكس، ليعلن عن قرار تاريخي بتوسيع عضوية التكتل لتشمل ست دول جديدة: مصر، إثيوبيا، السعودية، الإمارات، إيران، والأرجنتين.

لم يكن الإعلان مفاجئًا فحسب، بل بدا وكأنه يكسر سقف التوقعات، ويفتح الباب أمام نظام مالي جديد أو يعيد ترتيب خارطة النفوذ الاقتصادي العالمي. سرت همسات عن عملات بديلة ونظام مالي جديد، وحديث عن الجنوب العالمي حين يتأهب للخروج من طوق الدولار أو على الأقل يعيد التفكير في علاقته به.

منذ عقود، لم يعد الدولار مجرد عملة، بل تحول إلى أداة هيمنة تنعكس بعمق على اقتصادات الدول الأفريقية التي تلهث خلف تقلباته في غياب سياسات نقدية مستقلة. وفي هذا السياق، تطرح البريكس بدائل مغرية، من نظم دفع موحدة إلى تمويلات بعملات غير غربية، لكنها تثير تساؤلات جوهرية: هل يمكن التحرر من التبعية بالدخول في تبعية أخرى؟ وهل تملك أفريقيا مشروعًا نقديًا ذاتيًا، أم أنها ما تزال تتحرك ضمن خرائط الآخرين؟

يحاول هذا المقال الاقتراب من هذه اللحظة الفارقة، لا من بوابة التحليل المالي فحسب، بل من سؤال السيادة نفسه: هل نعيش بالفعل بداية خروج أفريقيا من المدار؟ أم أننا فقط نبدل اتجاه التبعية لا طبيعتها؟

ضيق العملة واتساع التبعية
تتجلى هيمنة الدولار الأميركي كعامل مركزي يقيد قدرة العديد من الدول الأفريقية على تحقيق استقرار اقتصادي مستقل. تُظهر تجارب دول مثل مصر ونيجيريا ودول منطقة الفرنك سيفا كيف أن الاعتماد المفرط على العملة الأميركية يعرض هذه الاقتصادات لتقلبات خارجية تعيق جهود التنمية المستدامة.

مصر: شهد الجنيه المصري سلسلة من التخفيضات الحادة، أبرزها في يناير 2023 بنسبة 40%، تلاها تعويم العملة في مارس 2024، مما أدى إلى انخفاض قيمتها إلى 0.02 دولار أميركي. أدت هذه التغيرات إلى ارتفاع تكاليف الواردات وزيادة معدلات التضخم، وتفاقمت أزمة العملة الأجنبية، مما دفع الحكومة إلى السعي للحصول على قروض من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار.

نيجيريا: تراجعت قيمة النيرة بشكل ملحوظ، حيث انخفضت بنسبة 47% من 770.38 نيرة مقابل الدولار في 2023 إلى 1,470.19 نيرة في 2024، مما زاد من عبء الديون الخارجية ورفع إجمالي الدين الخارجي إلى 42.5 مليار دولار أميركي في نهاية 2023.

دول الفرنك سيفا: تضم 14 دولة أفريقية تستخدم عملة مرتبطة باليورو بسعر صرف ثابت، وتلزم هذه الدول بإيداع 50% من احتياطاتها من النقد الأجنبي لدى الخزانة الفرنسية، مما يحد من سيادتها على سياساتها النقدية ويقيد التنمية الاقتصادية.

على الصعيد العالمي، بدأت بعض الدول في اتخاذ خطوات لتقليل الاعتماد على الدولار، مثل اتفاق الصين والبرازيل على استخدام عملاتهما المحلية في التبادلات التجارية، وبدء روسيا في استخدام اليوان الصيني في بعض معاملاتها التجارية.

مبادرات البريكس: فرصة أم تبعية جديدة؟
تظهر مبادرات مجموعة البريكس كفرصة للدول الأفريقية لتعزيز سيادتها النقدية. من بين هذه الأدوات، يأتي نظام "بريكس باي" (BRICS Pay)، وهو منصة دفع رقمية تعتمد على تقنيات البلوكشين لتسهيل المعاملات عبر الحدود باستخدام العملات المحلية. كما تدرس المجموعة إمكانية إنشاء عملة موحدة تُعرف باسم "عملة بريكس" مدعومة بسلة من السلع الإستراتيجية.

أنشأت البريكس بنك التنمية الجديد (NDB) لتمويل مشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في الدول الأعضاء، مع التركيز على تقديم قروض بعملات محلية. في عام 2024، وافق البنك على قروض بقيمة مليار دولار لجنوب أفريقيا و200 مليون دولار لدعم مشاريع التنمية المستدامة في مصر.

تسعى البريكس أيضًا إلى تعزيز استخدام اليوان الصيني في المعاملات التجارية بين الدول الأعضاء، مما يسهم في تقليل الاعتماد على الدولار. إلا أن نجاح هذه المبادرات يعتمد على قدرة الدول على تطوير مؤسسات مالية قوية، وتعزيز التكامل الإقليمي، ووضع رؤية واضحة للسيادة النقدية.

تبعية مقنّعة أم استقلال مؤجل؟
رغم ما تتيحه مجموعة البريكس من أدوات بديلة، فإن التحدي الحقيقي لا يزال داخل القارة نفسها. فإفريقيا، التي تضم أكثر من خمسين دولة متباينة في مستويات النمو والاستقرار، تفتقر إلى قاعدة مؤسسية صلبة يمكن أن ترتكز عليها مبادرات التحرر من الهيمنة النقدية.

أحد أبرز التحديات يتمثل في الهيمنة المتزايدة للصين داخل مجموعة البريكس، حيث تمثل الصين أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي للمجموعة، مما يمنحها نفوذًا كبيرًا في تحديد السياسات والتوجهات المالية.

ضعف البنية التحتية المالية، وتعدد العملات، وغياب التنسيق بين السياسات النقدية والمالية، جميعها تعمق من حالة التشظي وتضعف إمكانية بناء نظام نقدي موحد أو حتى منسق وظيفيًا.

في انتظار السيادة.. لا المخلّص
في عالم تعيد فيه القوى صياغة موازينها، لا يكفي أن تخرج دول أفريقيا من شبح هيمنة الدولار، إن لم تكن قادرة على الوقوف في ظلها الذاتي. فالسيادة النقدية لا تُمنح، ولا تُستورد؛ بل تُبنى لبنة لبنة.

اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية ليست مجرد مشروع تكامل اقتصادي؛ بل ربما تكون الإطار الوحيد الذي يمكن أن تُكتب فيه خارطة استقلال نقدي حقيقي، تتقاطع فيه الإرادة مع البنية، والسياسة مع الإنتاج، والمصالح مع المستقبل.

فأفريقيا التي تطمح إلى التحرر، لا يكفيها أن تستبدل العملة بعملة؛ بل أن تعيد كتابة شروط العلاقات، لا مع واشنطن أو بكين فحسب؛ بل مع ذاتها أولًا. فهي وحدها القادرة على أن تجعل من تلك النوافذ أبوابًا تُفتح باتجاه السيادة، لا مجرد ممرات جديدة للنفوذ القديم أو الجديد.

الفيديو

تابعونا على الفيس