ماذا بعد رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا؟ / بكر صدقي

أربعاء, 05/21/2025 - 22:49

بكر صدقي
أخيراً حدث ما لم يكن متوقعاً وقرر ترامب رفع العقوبات المفروضة على سوريا «إعطاء القيادة الجديدة في سوريا» التي وصفها بالقوة والدينامية «فرصة». الواقع أن الإدارة الجديدة كانت في كل المناسبات الدبلوماسية التي أتيحت لها تطالب برفع تلك العقوبات باعتبارها عقبة كبيرة أمام طموحاتها بشأن إطلاق عملية إعادة الإعمار وتدوير عجلة الاقتصاد المنهار وبناء أسس «دولتها الجديدة». ولعبت كل من السعودية وتركيا دوراً مهماً في إقناع ترامب بهذه الخطوة، إضافة إلى لقائه بأحمد الشرع بناء على طلب محمد بن سلمان ومصافحته له وإملاء عدد من المطالب الأمريكية عليه.
يمكن القول إن رفع العقوبات هو حقاً فرصة لا نعرف هل ستستفيد منها إدارة الشرع وكيف، أو أنها ستهدرها كما أهدرت فرصاً أخرى قبلها، كمؤتمر الحوار الوطني واللجنة الدستورية والحكومة الانتقالية بنسختيها الأولى والثانية. والمقصود هنا استفادة لمصلحة بناء سوريا جديدة لكل أبنائها وليس لمصلحة الطبقة الحاكمة التي تشير كل مسالكها إلى أنها تسعى لتأسيس نظام أحادي يحتكر السلطة ولا يبتعد كثيراً عن نموذج نظام الأسد المخلوع إلا باللون الإيديولوجي. وقد ركزت جهودها على نيل الاعتراف والشرعية من الدول العربية والإقليمية والدولية، مكتفيةً للداخل الوطني بـ«شرعية ثورية» تعرضت لكثير من التآكل في الأشهر الستة من حكمها، ومعرضة لمزيد من التآكل باطراد. ولا يمكن لصخب الجهاز الدعائي الموالي أن يغطي على هشاشة سيطرة الحكم على فصائل محسوبة عليها تتحرك بلا أي ضوابط، ولا على الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الطاحنة التي تشمل غالبية كاسحة من السوريين، ولا على انعدام ثقة مكونات وطنية تعرضت لمجازر أو تمييز بالطاقم الحاكم.
يمكن لرفع العقوبات أن يسمح بتدفق بعض الأموال على شكل مساعدات واستثمارات وقروض ستتوقف نجاعة استخدامها على الشفافية والتخطيط السليم واعتماد معيار الكفاءة بدلاً من الولاء، وقبل كل شيء تحديد الأهداف: هل الغاية هي إعادة بناء شاملة تنتشل سوريا من هوة العدم وتبني دولة وطنية يشعر جميع السوريين أنها دولتهم، أم تثبيت أركان نظام سياسي قادر على السيطرة وإقصاء كل ما يقع خارجه؟
يمكن لرفع العقوبات أن يسمح بتدفق بعض الأموال على شكل مساعدات واستثمارات وقروض ستتوقف نجاعة استخدامها على الشفافية والتخطيط السليم واعتماد معيار الكفاءة بدلاً من الولاء
من المحتمل أن النواة الصلبة للحكم الجديد تفكر في حل التناقض بين متطلبات إرضاء الخارج ومتطلبات إرضاء القاعدة السلفية الجهادية التي أوصلتها إلى الحكم من خلال تقوية جهاز الأمن العام ومنح مكاسب لبعض قادة الفصائل تمهيداً للتخلص منها. وهو ما قد يؤدي إلى صدام بين الجهاز المذكور وهذه الفصائل لا يمكن التكهن بمدى دمويته. كذلك لا شيء يضمن أن يقنع قادة الفصائل بما قد يقدم لهم من مكاسب على شكل مناصب عسكرية في الجيش أو الإدارة المدنية وما يمكن أن يترتب على ذلك من مكاسب مادية. هذا المخطط المفترض أن يستعيد النمط الذي اتبعه حافظ الأسد لتوطيد أركان حكمه: توزيع المناصب والمكاسب والمغانم على رفاق الدرب الذين ساعدوه في الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها، من كبار ضباط الجيش والمخابرات إلى من بقي معه من قيادة حزب البعث، مع وضعهم تحت المراقبة وابتزازهم بملفات فسادهم المنتفخة باطراد على مر السنوات تمهيداً للتخلص منهم واحداً بعد آخر. هذا ما كانه مصير أخيه رفعت الأسد الذي قام بمحاولة انقلابية ضده، وعلي حيدر وشفيق فياض وعلي أصلان وعلي دوبا، ثم عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وغيرهم.
غير أن الفارق بين هذا المسار وبين ما يمكن أن يرتسم من مسار أمام سلطة الشرع هو أن الأسد قد استولى على السلطة في ظروف مريحة نسبياً بالقياس إلى الوضع الكارثي لسوريا في أواخر العام 2024. كان ثمة دولة في 16تشرين الثاني 1970، وجيش وشرطة وقضاء وتعليم واقتصاد معافى بالمعايير المحلية ومجتمع غير منقسم على نفسه. واهتم الأسد الأب بنيل شرعية داخلية بقدر اهتمامه بالاعتراف الدولي، فاستمال الطبقة التجارية التي كانت متضررة من الحكم الاشتراكي المتشدد لنظام سلفه صلاح جديد، وأنشأ إطاراً تحالفياً مع مجموعة من الأحزاب القومية واليسارية في إطار أسماه «الجبهة الوطنية التقدمية»، وورث ولاء الفلاحين عن النظام السابق، كما راعى التنوع الإثني والديني والمذهبي للمجتمع فكان حريصاً على جعلهم يشعرون بأنهم ممثلون في السلطة. إن إفراغ حافظ الأسد لكل هذه الأطر من مضامينها وتحويلها، بمرور السنوات، إلى مجرد واجهات لتعزيز دكتاتورية فردية ستتحول إلى وحش دموي بدءا من العام 1980، لا يلغي واقع أنه كان حريصاً على تأمين ولاء شعبي بأوسع ما يمكن.
مؤسف أن اضطر لهذه المقارنة التي تبدو وكأنها لصالح نظام الأسد. هي كذلك من زاوية مصلحة بقاء النظام. أعني أن الأسد قد اشتغل سياسياً على تأمين قاعدة اجتماعية واسعة قدر الإمكان لتحقيق ديمومة لحكمه، في حين تعمل الإدارة القائمة اليوم في دمشق وكأنها ليست في حاجة لقاعدة اجتماعية وتحالفات سياسية مماثلة، نائمة في عسل وهم أنها تمتلك فعلاً قاعدتها الاجتماعية المتمثلة «بداهةً» في الأكثرية العددية السنّية. في حين أن السنة لا يشكلون كتلة سياسية موحدة، ناهيكم عن الكرد والشركس والبيئات العلمانية والمجموعات الإسلامية غير السلفية. هذا إذا لم نحسب الأقليات الدينية والمذهبية التي لا تثق بالإدارة القائمة.
مختصر القول إن رفع العقوبات ليس عصاً سحرية لحل مشكلات سوريا الهائلة، قد تساهم قليلاً في تخفيف حدة بعض المشكلات، لكنها لا تكفي للمضي إلى الأمام ما لم يتم ترميم الهوية الوطنية من خلال توسيع قاعدة المشاركة السياسية والاقتصادية.

الفيديو

تابعونا على الفيس