عن الحكايات الحزينة والحكايات المريضة إبراهيم نصر الله

خميس, 02/27/2025 - 01:48

1
أعرف أن الحكاية حزينة، ولكن من قال إن الحكايات الحزينة يجب أن تُدفَن، الحكايات الحزينة ليست حكايات ميتة، إنها حكايات مريضة وكل ما في الأمر أنها تطلب منا أن نحكيها لتَشفى، لتتغير وتصبح حكايات سعيدة في النهاية، لكيلا تكون هناك حكايات حزينة أخرى، أليس كذلك؟
2
هل تعرفين ما هي مشكلة البشر؟ إنهم الوحيدون الذين يعتقدون أنهم إذا ساروا حسب اتجاه عقارب الساعة فإنهم يفعلون الشيء الصحيح؟ مع أنهم في الحقيقة يسيرون عكس حركة الكون، فالمجموعة الشمسية تدور كواكبها الرئيسية كلّها عكس عقارب الساعة؛ القمر يدور حول الأرض عكس عقارب الساعة، والأرض تدور حول الشمس عكس عقارب الساعة، والشمس تدور حول نفسها عكس عقارب الساعة. ولذا، فإن العدائين في السباقات الرياضية منذ عام 1913 يركضون اعتمادًا على قرارات الهيئات الدّولية، عكس عقارب الساعة، أما الخيول فإن سباقاتها منذ منتصف القرن التاسع عشر تتمّ عكس عقارب الساعة. وهناك تفسيرات كثيرة لأهمية فعل هذا، تتعلق أيضًا بتركيبة الدّماغ. أترَين؟ كأن الإنسان هو الوحيد المصرُّ على أن يسير عكس الكون؛ فكل ما يفعله هو الجري المجنون للّحاق بعقارب الساعة أو تجاوزها، رغم أنه في الحقيقة لن يستطيع أن يدركها أبدًا.
واسمحي لي أن أسأل نفسي بما أن الحديث وصل إلى هنا: هل يمكننا القول إن الحرية هي السير عكس عقارب الساعة؟
3
الآن يمكنني أن أقول لكِ: لقد غادرتُ نفسي وعُدتُ لها، وغادرتها أحيانًا ولم أعُد حتى الآن، وأخطأتُ كثيرًا، أخطأتُ في أشياء قمتُ بها، وأشياء لأنني لم أقم بها، نسيتُ وتذكَّرتُ، وصدَقتُ وكذبتُ، وكنتُ شجاعًا في بعض الأحيان، وخائفًا في كثير من الأحيان، هربتُ وواجهتُ، وأنجزتُ وأخفقتُ، وأحببتُ، لكنني حرصتُ ما استطعتُ ألّا أكره، وحلمتُ كثيرًا، وتناسيتُ بعض أحلامي متعمِّدًا، واختلقتُ أحلامَ يقظةٍ كي لا تكون لديّ حجّة لأن أنساها، وقاتلتُ أكثر مما تملكُ جيوشي من قوّة، وسالمتُ أقلَّ بكثير مما في السّلام من سلام، كي لا أُدمِنَ الاطمئنان، وتكلّمتُ حين صمتُّ، وتكلّمتُ أكثر حين تكلّمتُ، وأردتُ أن أقول لكِ شيئًا اليوم، وفي الماضي، وأردتُ أن أكتمه إلى الأبد، آملاً أن يكون كلّ ما قلته لكِ الآن كافيًا لأوضّح أنّني في النّهاية مجرّد إنسان.
4
الفرح يحوِّل البشر إلى مجانين أحياناً، والحزن أيضًا. من أيّ شيء خُلِقَ الإنسان حقّا؟ من تراب، أم من ابتسامة مجبولة بالدموع؟
5
هل يعني جنس الإنسان شيئًا، ذكرًا كان أو أنثى؟ هل يعني عمره شيئًا؟ أمْ يعنينا دائمًا منسوب الحياة التي فيه؟ هل ينطبق هذا على علاقة أيّ فرد في هذا العالم بالبحر؟ الغابة؟ بكلب؟ بقطّة؟ بنمر؟ بغزالة؟ بفراشة؟ أو علاقته بفصل ما من فصول السّنة؟ أنت لستَ معنيًّا بالسؤال عن عمر الخريف لتحبّه، أو عمر الشّتاء، أو عمر وردةٍ تولد الآن، أو شجرة توت أو زيتونة، أنتَ معنيٌّ بما فيها من جمال، حياة، طاقة، حضور يملؤك ويفيض، يملأ روحك… ويُحْييك.
6
كنت أسأل جدتي بين حين وحين عن صحتها، فتقول: صحتي جيدة، ولولا هذه الذكريات المُرّة التي تثقل قلبي لكنت في الثامنة عشرة من عمري حتى الآن. وذات مرة سألتني: هل تعرف يا حبيبي الحِمْل الوحيد الذي إذا حمله الإنسان مرة لا يستطيع أن ينزله عن ظهره أبدًا. فأجبتها: الذكريات المُرَّة، فسألتني كيف عرفت؟ كأنني أنا التي أنجبتك وليس أمّكَ.
7
اعترف جدّي لجدتي: أنا لا أستعجل هذا المُهْر أن يكون حصانًا، فأنت تعرفين، لم أستعجل أطفالنا ليكونوا كبارًا في أي يوم من الأيام، لماذا أستعجلهم، وأنا كل ما أتمناه اليوم أن أعود طفلًا.
8
أنتِ تمضين إلى زيارة مكان ما، في المرّة الأولى، فتُضمرين في داخلكِ المكان نفسه، أو لنقُل حجَرَه الذي يكون هو الذّريعة التي تتكئين عليها، على أمل اللقاء ببشره. لكن؛ في كلّ مرّة يلتقي فيها إنسان بإنسان في مكان ما، لا يعيده لهذا المكان -في المرة الثانية- حلمُه بالمكان، بل حلمه بلقاء من التقاهم ثانية فيه. وإن عاد له بعد غياب هؤلاء الناس، يعود لغيابهم عن المكان، وغياب المكان عن نفسه.
إذا أردتَ أن تعرف مكانًا على حقيقته، أدخلْهُ وحيدًا، فإن أحسستَ بوحدتك أكثر، فلا تدخلْه ثانية مع من تُحِبّ.
9
تدهشكَ المرأة القويّة، الذكيّة؛ لم تزل تتذكّر ذلك الشِّعار الفذّ الذي يُرفع في عيد المرأة في «أيرلندا» تخليدًا لتلك الفتاة المقاتلة: «لا تخشَ الارتباط بامرأة قويّة، قد يأتي يوم وتكون فيه هي جيشكَ الوحيد».
10
صحيح أنّ صورَنا لا بدّ منها لكي يسير الواحد منّا باتجاه الآخر حينما يلتقيه للمرّة الأولى، وقد ضربا موعدًا، لكنّها في أفضل حالاتها تشبه إشارة من الإشارات المثبتة على الطّرُق التي تدلّنا بسهمها على المدينة التي نقصدها، أما المدينة، المدينة نفسها، فلا يمكن أن تعرفها قبل الوصول إليها، تعرفها حين تعيش فيها وتعيش فيكَ. عند ذلك تصبح لها صورة، صورةٌ لكَ وحدكَ أنتَ الذي شكّلتَها، رسمتَها، كوّنتَها خلقتَها من نفسك ومنها. صحيح أنكَ قد تكون قرأتَ عنها، قرأت تاريخها من قبل؛ ولكنّ هذا لا يكفي، ستعرف المدينة وتعرف تاريخها حين تعيشها بقلبكَ، حين تختبركَ وتختبرها.
11
في ظنّي أن في روح كلّ إنسان حصانًا، لكن هذا الحصان أحيانًا يكون مُهْرًا، وأحيانًا حصانًا شابًّا أو عجوزًا، وأحيانًا حصانًا مُتمرِّدًا أو قانعًا بالعَلَف الذي يُقَدّم إليه، وأحيانًا حصانًا عنيدًا أو حصانًا مطْواعًا، وأحيانًا حصانًا أصيلًا.. أو غير ذلك. وفي ظنّي أنّ في كلّ حصان إنسانًا ما، فيه ما في الخيل من صفات. أمّا أسوأ ما يحدث للبشر فهو أن تفصلهم مسافة كبيرة عن الخيْل التي فيهم.
*مقاطع من رواية جديدة