في ذكراه السادسة… ماذا كتبنا عن الحراك في الجزائر؟ ناصر جابي

أحد, 02/23/2025 - 22:13

لا بد من الإقرار بالحقيقة أولا، لم نكتب كثيرا أو كما كان يجب أن نكتب، كما حصل مع ثورة التحرير وقبلها بالنسبة للكثير من مراحل التاريخ الوطني الأخرى. فالجزائري ابن الثقافة الشفهية، معروف عنه أنه مُقل في الكتابة. ظاهرة كان لها تفسير مقنع نوعا ما بالنسبة لحرب التحرير، بما ميزها من ضعف انتشار التعليم وقلة من يستطيع أن يكتب في تلك الفترة، كما تظهره المستويات التعليمية لجنود جيش التحرير – وحتى ضباطه الصغار – الذين كانوا في الغالب من أصحاب المستويات التعليمية المتدنية، بل الأمية، عكس ما حصل أثناء الحراك الذي عرف تحسنا كبيرا في المستويات التعليمية للجزائريين، يمكن عدها كأحد الأسباب الرئيسية في تفسير التوجه نحو الحراك عند هذه الأجيال المتعلمة، التي لم تعد تقبل بما قبلت به أجيال قبلها.
رغم هذا لم يكتب الجزائريون بالقدر الكافي حول الحراك، الذي شارك في مسيراته بالجزائر والمهجر عديد المثقفين – أساتذة جامعات – صحافيين ومتعلمين من كل الأصناف – كان يمكن أن يكتبوا عن هذه التجربة الجيلية المهمة التي عاشوها، لتدوين شهاداتهم على الأقل. كانت بالنسبة للكثير منهم أهم تجربة سياسية بعد الاستقلال بالنسبة للكبار في السن بالطبع.

توقف اهتمام البحث الجامعي بالحراك والنشر حوله، يعكس الخوف الذي ما زال يعتري صاحب القرار في الجزائر من هذه الهبة الشعبية، التي زلزلت أركان السلطة وغيرت موازين القوى بين الشعب والنظام السياسي

رغم كل هذه التحفظات، فقد كتب بعض الجزائريين على قلتهم، وبعض الأجانب من الفرنسيين والقليل من العرب. كتابات حصلت تحت ضغط الاستعجال في الكثير من الأحيان، كتبت في السنتين الأوليين للحراك. ظهرت في الغالب على شكل مقالات صحافية – تم تجميعها لتصدر على شكل كتاب من قبل أصحابها – أو مقالات في مجلات ودوريات جامعية وأخرى صادرة عن مراكز بحوث، ظهرت على شكال أعداد خاصة حول الحراك، الذي تحول خلال هذه الفترة إلى وسم يلجأ له الكثير لبيع منتجهم من الكتب، كان من الضروري أن يذكر في عنوان الكتاب أو المجلة، حتى إن كان الموضوع بعيدا عنه. بعد أن تحول الحراك إلى علامة للترويج والإشهار عند القراء في الجزائر والخارج. نتيجة الصورة الإيجابية التي ظهر به هذا الحراك وهو يبهر العالم ويغير نظرة الجزائريين إلى أنفسهم.
الجامعة في الجزائر والخارج – فرنسا تحديدا – اهتمت هي الأخرى بالحراك عبر الكتابة باللغة الفرنسية، كان وراءه جامعيون جزائريون في الغالب، لنكون أمام معضلة جدية ما زالت تعاني منها الجامعة الجزائرية، متعلقة بضعف إمكانيات البحث، ما جعل أغلبية البحوث التي أنجزت حول الحراك بالعربية، داخل جامعاتنا لا تبرح مرحلة البحث الهاوي المبتدئ، الذي لا يتوفر على شروط الدراسة الأكاديمية الرصينة. تم الاكتفاء فيها في الغالب بإجراء مقابلات مع زملاء الدفعة وأساتذة الجامعة ـ القسم في الغالب – كعينات بحث لا تسمح بأي حال من الأحوال بالاعتماد عليها في تعميم نتائج ما قدم كدراسة لنيل شهادة جامعية، بل يمكن الاعتماد عليها في فهم ما حصل، باختصار كتابات كانت في الغالب أشبه ما يكون بالتمرين البحثي الهاوي.
لنلاحظ ونحن نتابع هذا الاهتمام الجامعي بالحراك توقفه فجأة، بعد أن غيرت السلطة موقفها من الحراك بعد دسترته في نوفمبر 2020، انتقل فيها إلى موقع «الحراك المبارك»، الذي يمنع الحديث عنه أو دراسته من قبل جامعة فاقدة لزمام أمورها العلمية والبيداغوجية. وهو ما حصل على مستوى النشر، الذي أصبح فيه من غير المقبول الكتابة عن الحراك. وضع عادت فيه الجزائر إلى مرحلة ما قبل 1988 حين كان الجزائري يتوجه إلى باريس للكتابة حول مواضيع تهم بلده، أو قراءة ما ينشر حول الجزائر، في وقت الوسائط الاجتماعية والتدفق العالي للإنترنت! عكس سنوات الحراك الأولى ولغاية 2022-2023 التي تمكن فيها بعض الباحثين المتميزين من الكتابة حول الحراك في الجزائر، بشكل يستوفي شروط الكتابة الجدية وإصدار كتبهم في وقت قياسي، دليل الحيوية التي ما زال يتمتع بها قطاع النشر في البلد. كتابات اهتمت بالكثير من القضايا التي طرحها الحراك الشعبي كمسألة دور الوسائط الاجتماعية والإعلام ومشاركة المرأة والشباب، وخصوصيات ما ميز النظام السياسي ومؤسساته المركزية – كان من بينها المؤسسة العسكرية – زيادة على تلك القضايا المهمة التي أبان عنها الحراك كالسلمية التي ظهر بها واستمر عليها، وهو ينجز ذلك الحوار الراقي بين أبنائه وبناته، عبر توليفة لغوية جزائرية، تصالح فيها الجزائريون مع تاريخهم الثقافي واللغوي الذين كانوا يقومون بزيارته كل أسبوع وهم يحتفلون بوجوههم التاريخية من كل مناطق البلاد والتيارات السياسية والفكرية، رغم محاولات الزج بهم في حروب هوياتية لم تنجح، كانت وراءها تيارات فكرية ماضوية، وجدت الدعم من قبل بعض الوجوه المندسة داخل مؤسسات الدولة العميقة – كما بينته بعض المحاكمات – وصلت في غفلة من التاريخ إلى مناصب لم تكن مؤهلة لها، حاولت توريط الجزائر والجزائريين، انتهى بها المقام في غياهب السجون بتهم ثقيلة ولمدة طويلة بعد أن ساعد الحراك على كشفها. حراك نشرت حوله مؤسسات بحثية جزائرية، إنتاجا علميا متميزا، كما حصل مع مركز ـ الكراسك – بوهران قبل أن يسحب المنتوج من السوق ويتم التعتيم عليه، وإقالة مديره، الذي تجرأ وقام بعمله البحثي، بدل أن يترك الساحة فارغة، في زمن التفاؤل الذي عاشه الجزائري داخل بلده. كتابات أنجزها متخصصون في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الغالب، وبعض الناشطين من الجنسين من أصحاب المؤهلات الجامعية للكلام عن تجاربهم داخل الحراك في الجزائر وفرنسا، التي ما زالت كبلد وفضاء جامعي وفكري مهتم بما يحصل في الجزائر، يمكن أن يحتل مكانة أكبر ويتحول إلى نوع من الهيمنة إذا استمر الغلق الذي تعيشه الجزائر في مجال الحريات الأكاديمية والسياسية، في غياب الجامعة الجزائرية التي تم إسكاتها بشكل صارم، بُعيد توقف مسيرات الحراك بعد إغلاق هذه الفسحة القصيرة التي عاشها الجزائري أثناء الحراك.
توقف اهتمام البحث الجامعي بالحراك والنشر حوله، يعكس الخوف الذي ما زال يعتري صاحب القرار في الجزائر من هذه الهبة الشعبية، التي زلزلت أركان السلطة وغيرت موازين القوى بين الشعب والنظام السياسي، كما تبين ذلك بمناسبة الاحتفال بذكراه السادسة هذه الأيام. حتى وهي لم تحقق كل الأهداف التي خرجت من أجلها. نتيجة تعنت القوى الاجتماعية المحتمية بمراكز السلطة وخوفها على مصالحها، زيادة على اعتبارات كثيرة مرتبطة بما ميز تاريخ الجزائر السياسي والثقافي من نقاط ضعف وشروخ، برزت بمناسبة الحراك، كما طرحته مسألة تنظيم الحراك ودور النخب داخله، حالت دون تحقيق ما كان يصبو له الشعب الجزائري الذي «تنازل» عن وعي بحقه في التغيير، في انتظار المستقبل.
كاتب جزائري

المصدر: القدس العربي